العمل المؤسسي

  
اقتضت حكمة الله تعالى ومشيئه أن تكون شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الشريعة الخاتمة ودينه هو الدين الخاتم لكل البشرية.

والمسلمون من بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجب عليهم حمل تلك الرسالة إلى كل العالمين.. واختارهم الله من بين كل الأمم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.. إذا حققوا شرطها: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110]

والبشرية لها عند المسلمين أمرين.. الأول: أن تبلغها هذه الرسالة لفظاً ومعنى. والثاني: أن ترى هذه الرسالة نموذجاً حياً تراه الأعين، وتلمسه الأيدي، وتلحظه العقول.
ولذلك، فمهمة المسلم ضخمة وهامة وعظيمة، إذ يحمل رسالة الله إلى كل العالمين.. ولذا وجب عليه أن يفهم مقاصد تلك الرسالة أولاً، وثانياً: أن يعالج قضايا أمته المصيرية، حتى تكون أمته قدوة حقيقية لرسالة الله، وثالثاً: عليه أن يفهم الواقع العالمي لكل البشرية.

إنها رسالة عالمية تتطلب جهوداً عالمية.. وطاقات مجتمعة.. وراية واضحة.. واكتشافاً لكل طاقات المسلمين.. وتوظيف تلك الطاقات في رحاب تلك الرسالة العالمية، وتلك الأمة الربانية.. متحرراً من أمراض الحزبية، والتعصب.. فالولاء لله والإنتماء لتلك الأمة، والعمل من أجل هذه الرسالة.

وفي ظل هذا الواقع العالمي الذي يرفض وجود الإسلام كرسالة ربانية، وكدولة متقدمة، وكدعوة عالمية.. ويقبله فقط مجرد شعائر أو طقوس.. في ظل هذا الواقع الذي يرفض وجود الإسلام، ويُجيش الطاقات من أجل عدم السماح بوجوده، فوجب على المسلمين أن يتعاملوا مع واقعهم العالمي بنفس القدرة والكفاءة أو أشد.

في الواقع العالمي توجد المؤسسات، والعمل الجماعي المشترك، والتوظيف الأمثل لكل الطاقات، والإدارة المبدعة لكل شيء، والدقة المتناهية لكل فعل.. وهذا شيء غير الأحزاب السياسية، إن المؤسسات الفكرية في أمريكا وحدها 1823 مركزاً فكرياً (Think Tanks).. تجمع كل الطاقات البشرية في شتى العلوم الإنسانية، حتى تكون في النهاية هي من يوجه الواقع البشري وفق مصلحتهم الخاصة وأهدافهم المادية. هذا غير المؤسسات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية والعلمية والتكنولوجية.. إلخ.
وللأسف لم ندرك نحن بعد أهمية العمل المؤسسي، وفرق العمل الجماعي.. وتفرقنا شيعاً وأحزاباً.. كل حزب بما لديهم فرحون ! وكل شيخ وطريقته ! والسبب الرئيسي في هذا هو عدم قوة الإنتماء للأمة الإسلامية - إذ وحدها إطار الولاء الجامع - وكذلك عدم الإرتفاع إلى مستوى المسؤولية والشرف في حمل رسالة الله إلى العالمين !

ولهذا تتفرق الجهود، وتضيع الطاقات، ويُدفن المبدعين والمفكرين في غياهب الحزبية التي لا يعرفها الإسلام.

إن الإسلام كمنهج ورسالة يسع الجميع، ويوظف طاقات الجميع، لكن حواجز الحزبية والتعصب قد تمنع الاستفادة الحقيقية من تلك الطاقات ! وتمنع كذلك اكتشاف القدرات والمواهب في الأمة.

إن الإسلام تصور واعتقاد، وعبادة وشعيرة، وشريعة ومنهج حياة.. والإسلام وضع الأسس والمبادئ والأحكام لقيام أمة الإسلام ودولته.. وترك التنظيم والإدارة للمستوى الحضاري لكل جيل.. وترك كيفية تحقيق ذلك إلى إبداع الأمة في كل جيل.

فكان واجب كل أمة مسلمة في كل جيل من أجيل البشرية:
1- تحقيق إسلامها في: التصور والاعتقاد، وفي العبادة والشعيرة، وفي قيام شرع الله ومنهجه في الحياة.

2- إدراك واقعها المحلي والعالمي، والعقبات التي تقف في طريق حمل رسالتها، حتى تكون مؤهلة لحمل رسالة الله إلى العالمين.

3- بناء المؤسسات اللازمة حتى تقيم دعوة الإسلام ودولته ، وحتى تحقق أهدافها الأولية والمرحلية والتكتيكية والاستراتيجية، نحو تحقيق إسلامها، ونهضة أمتها، وعولمة رسالتها.

4- الجهاد في سبيل الله: جهاد النفس بحملها رسالة الله واستعدادها للتضحية والبذل والفداء، والجهاد المجتمعي بإحياء الأمة الربانية وانتقالها من الحالة الغثائية إلى الحالة الحية القيمية الفعالة، والجهاد العسكري وذلك بتدمير قوة الباطل التي تقف في وجه قيام الحق والعدل بقيام شرع الله في أرضه، وذلك دون إكراه أحد على الدخول في هذا الدين.

وفي الواجب الأول: في تحقيق الأمة إسلامها، يبحث العلماء والمفكرون ما أصاب تصور الأمة الإسلامي من شبهات أو ضلال أو شرك ثم ينطلقون من منهج علمي وخطى ثابتة وهدف واضح لتصحيح فكر الناس، وتنقية عقيدتهم مما أصابها، مع اعتبار ضعفهم، وفهم التركيبة النفسية والاجتماعية لمعالجة تلك الشبهات أو الانحرافات سواء أصابت اعتقادهم، أو أصابت عبادتهم، أو أصابت منهج حياتهم وتطبيق شرع ربهم.. ولقد كان أكثر الشبهات حول شرع الله لما كان من شدة الحرب عليه.. ولهذا فالدعوة إلى "شرع الله" تحتاج إلى جهد بالغ لإفهامها، وإدراك معانيها، وتوضيح مقاصد الشريعة، ودحض الشبهات حولها، وتمهيد الطريق إليها.. وهذا مجال الدعوة الرئيسي.. لأن شرع الله: حق الله على العبيد، وأصل أصول التوحيد، وشرط النهضة الوحيد..
ولكن كيف نتناول هذه الدعوة؟ يتبين ذلك في الواجب الثاني.

الواجب الثاني: هو إدراك الأمة لواقعها المحلي والعالمي والعقبات التي تقف في طريق نهضتها، وكيف تنطلق بدعوتها، فكيف يتحقق ذلك؟ وكيف تدرك الواقع ( الاجتماعي والنفسي والسياسي والاقتصادي والعالمي والعسكري وميزان القوى الدولية )؟ يتم ذلك بالواجب الثالث.

الواجب الثالث: هو بناء المؤسسات اللازمة لإقامة دعوة الإسلام ودولته، وهذا حق كل البشرية علينا، ومن قبلها حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالتالي فهو إطار واسع يشمل كل المسلمين، وهو متروك لإبداعهم وطاقاتهم لينطلقوا بأقصى طاقة ممكنة لتحقيق هذه الدعوة، واستكمال بيانها للناس.. كل الناس، في الأرض.. كل الأرض.

وهذه المؤسسات هي وليدة المستوى الحضاري والفكري الذي يعيشه الجيل المسلم.. فمثلاً ( الأحزاب – المراكز الفكرية – مراكز البحوث – الجميعات – الجامعات – الاتحادات – أو غيرها مما تحمله كلمة مؤسسة )
حينما يغيب عن هذه المؤسسات أمراض التعصب، والحزبية، وحظ النفس، والفتور، والسمعة والرياء والمسمى الوظيفي.. وتنطلق إلى رحاب أوسع.. رحاب النبوة والرسالة والخلافة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترتفع إلى مستوى المسؤولية العالمية تجاه البشرية، وتعرف قدر ما تحمله من رسالة، ودورها في هداية البشرية إلى صراط الله المستقيم.. حينها سيتلاشى التعصب، وستتلاشى حظوظ النفس، وتنطلق النفس الإنسانية بكل طاقاتها.. بكل حب وحرص ورحمة بالإنسانية، تحقق دورها في حمل رسالة الله إلى العالمين.. مثلما فعل الجيل الفريد.. جيل الصحابة عليهم رضوان الله.

وبالتالي هذه المؤسسات ( الأحزاب - المراكز الفكرية...إلخ ) ليست بذاتها مرفوضة في الإسلام، بل على العكس إنها واجبة كل الوجوب لتحقيق الفاعلية الاجتماعية والعالمية والقدرة على صياغة وفهم الحياة.. 

ولكن ما هو مرفوض من هذه المؤسسات هو [ التعصب والحزبية، حظ النفس والسمعة والرياء، استخدام الإسلام كشعار فقط لأغراض حزبية أو شخصية، أو تحوير هدفها الرئيسي ! ] أي أن هذه الأخلاق المقيتة هي المرفوضة.. وهي أخلاق تلغي معنى الأمة، والقيام بحمل الرسالة العالمية.. لأن رحاب الإسلام واسعة، وأفاقة عالية، وأهدافه سامية. إن فكرة الأمة تقفز فوق حدود الذات، والشيخ، والحزب، والجماعة.. بل وحدود الأرض واللغة والجنس؛ لتؤلف العقول والقلوب والأرواح نحو هدف واحد.. رفع راية الله في الأرض، ومتى أخلص جيل في هذا الهدف.. نصره الله وأيده ورفع ذكره وتقبل عمله.

الواجب الرابع: وهو الجهاد في سبيل الله، وهو الترجمة النهائية لكل الواجبات السابقة.


***

في العام 1897 اجتمع ما يقرب من 300 مفكر وعالم وباحث يهودي، ليتفقوا على ورقة عمل لقيام دولتهم المزعومة إسرائيل ! وتحققت لهم بجهد مضني وعمل بالغ الدقة، والمتابعة، والتمحيص، واستغلال كل الفرص ! هذا نموذج عندما تجتمع الطاقات.. وإن اجتمعت على باطل، فلقد تحققت لها سنة الله في الحياة. فما بالنا لو اجتمعنا على حق، وحق أصيل يقوم عليه كل الوجود !

 لقد كان المسجد هو المؤسسة الجامعة للفكر والفاعلية الإسلامية للمجتمع المسلم، ولقد أدى دوره الرائد في ذلك.. وفي هذا العصر نشأت مؤسسات متخصصة في كل علم تجمع طاقات المفكرين والباحثين والمبدعين وكان لها الأثر المباشر في قيام دول عظمى كبرى، وصياغة واقع عالمي..
وآن للمسلمون أن يتوجه جهدهم وعملهم لقيام مثل هذه المؤسسات، وهي مؤهلة للنجاح أكثر من أي مؤسسات أخرى.. وذلك لعدة الأسباب.. إن ربها واحد، وكتابها واحد، ورسولها واحد، وأمتها واحدة.. لا ينقصها سوى الإخلاص والتجرد والاجتماع، ومتى اجتمعت هذه الأمة على كلمة الحق؛ فهي منصورة بإذن الله.

إن الطاقات في العالم الإسلامي واسعة وفي كل مجال، لكن لا يجمعها رابط، وقد تقف حدود الحزبية أو التعصب مانعاً لاجتماع الطاقات ! وآن للعلماء أن يجتمعوا، وأن يوحدوا جهدهم نحو عمل مؤسسي، وأن يتبنى أهل المال من المسلمين قيام هذه المؤسسات، وأن تكون نهضة الأمة وحمل رسالتها للعالمين مسؤولية فردية وجماعية لكل مسلم، وأن يكون الإنتماء للأمة الإطار الواسع الذي يحتوي الجميع.. يسع المفكر والمتخصص، ويسع المبدع والباحث، ويسع أهل المال والسلطان، ويسع المسلم العادي المحب لدينه ووطنه.. وهذا هو الذي يُنشر الفاعلية والحيوية والانطلاق والاستفادة من طاقات أبناء الأمة. فحاجة النفس الإنسانية إلى الإحساس بدورها وقيمتها ورسالتها عميق في النفس، ولا يوجد رسالة غير الإسلام تستطيع تحقيق ذلك.

ولهذا وجبت دعوة كل المسلمين إلى بناء المؤسسات الإسلامية بالإخلاق الربانية ومنها ( الإخلاص والتجرد لله – التحرر من الحزبية والتعصب – الصدق والأمانة – الولاء لله، والانتماء للأمة.. إلخ ) إلى غيرها من الصفات والأخلاق الربانية التي تجعل من المؤسسة الإسلامية منارة هادية لكل البشرية، وتكون المؤسسة الإسلامية متفردة في أخلاقها وأهدافها وقيمها، وليست تقليداً لغيرها !

وجب على كل المسلمين أن ينفقوا جهدهم وأموالهم في بناء مؤسسات جامعة للأمة، وأن تفهم أنه لا تحقيق لأهداف الإسلام بالعمل الفردي – وإن كان أجره لا يضيع عند الله – بل بالعمل الجماعي، والهدف من كل مؤسسة إسلامية سواء أكانت حزباً سياسياً أو مركزاً فكرياً أو جامعة أو كلية..إلخ إنما هو بيان رسالة الله لكل العالمين.. وتحقيق شرع الله في أرضه !

وعندما تقوم المؤسسات على هذا الهدف، وتحت تلك الراية.. راية شرع الله، تكون هي صمام الأمان لحماية الأمة من أخطر مرضين أصابها التشدد "التكفير" والميوعة "الإرجاء"..

في التشدد: اتجهت جماعة من المسلمين إلى العنف الفكري والعنف الحركي لتنفذ أهداف الإسلام.. ظناً منها أنه لا طريق سوى طريق السيف، وفشلت ولم يتحقق لها شيء ! وكان رد فعل للميوعة والترخص، مع اعتبار العوامل النفسية في الشخصية المتشددة.

وفي الميوعة: اتجهت جماعة من المسلمين لتخدر الأمة، وتبدد طاقاتها، وتلغي دورها في الحياة، والأمة أساساً في حالة مرض شديد، فجاءها هؤلاء ليزيدوها مرضاً وخدراً ! مع اعتبار ميل النفس إلى الترخص والسهولة والكسل والتراخي والترهل.

قيام المؤسسات والعمل الجماعي تحت راية شرع الله.. وشرع الله هو: كل ما شرّعه الله لتنظيم الحياة البشرية في كل مجالاتها، يحمي الأمة أن تقع في الإفراط أو التفريط.. وتكون أمة ربانية حقيقية تحمل التصور الرباني بشموله وواقعيته وإيجابيته وتوازنه وتفرّده.

ومن هنا أدعو كل المفكرين والمشايخ والعلماء والمبدعين، وكل من يحمل حب لهذه الأمة أن يحاولوا جمع شمل الأمة، وإنما يجتمع شمل الأمة باجتماع كلمة العلماء والمشايخ المخلصين لله، ولاءهم: لله ورسوله.. لا لحاكم ولا لحزب ولا لجماعة...
والإنتماء: للأمة.
والهدف: رفعتها، وحمل رسالة الله إلى العالمين، بقيام شرع الله في كل الميادين. وبناء المؤسسات اللازمة لذلك.. 

فالعمل المؤسسي.. ضرورة واقعية لتحقيق شريعة ربانية.


كُتبت في 28 / 06 / 2013

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شبهات حول فكر قطب

الجيا والدولة

تكفير المتوقف في التكفير