تطهير القضاء
"تطهير القضاء" والمتلاعبون بالعقول
كُتب هذا المقال بتاريخ: 26 / 04 / 2013 م
فجأة ظهر على مسرح الحياة المصرية في الأونة الأخيرة مطلب "تطهير القضاء"
ومطالبة جماعة الإخوان المسلمون وحزب الحرية والعدالة بتطهير القضاء، بعد جملة من الأحكام المحرجة لنظام الرئيس محمد مرسي، كبراءة جميع المتهمين في أحداث الثورة كأن الثورة كانت فيلمًا خياليًا عاشه المصريون في أحلامهم، هذا بالإضافة إلى حل مجلس الشعب، وحل الجمعية التأسيسية الأولى، والتحضير لحل مجلس الشورى نفسه، بل والتحضير حتى لاعتبار الإنتخابات الرئاسية الأخيرة مزورة، بل واعتبار الرئيس مرسي هارب من السجن، يجب محاكمته..!فظهر على مسرح حياتنا فجأة "حملة تطهير القضاء" والدعوة إلى تظاهرة مليونية من الإخوان حضرها طيف كبير من الحركة الإسلامية عدا "حزب النور" منافس حزب الحرية والعدالة.
هذا باختصار شديد ما يدور في الساحة المصرية الآن حول هذا الموضوع، وسنبين ـ بإذن الله ـ كيف يتم التلاعب بالعقول؟ وكيف يتم خلط الحق بالباطل؟ وكيف يخرج الإنسان من هذه الأزمة أشد حيرة وتيه؟
***
المؤيدون لحملة تطهير القضاء، يسوق مجموعة من المبررات والبواعث ويشخد عقوله، ويجمع طاقته ليجعل هذا الأمر ضرورة ملحة تستوجب الحدوث الآن وعلى وجه السرعة وإلا خسرنا وفشلنا.. وهذا ما فعله الإخوان المسلمون، ومن أيدهم في هذه الحملة.
على الجانب الآخر من المعارضين لحملة تطهير القضاء، سوقوا جملة من المبررات والبواعث والبراهين.. إن هذه حملة شعواء الغرض منها النيل من العدالة، والنيل من قضاة مصر، وأنه حتى لا يجوز قول كلمة "تطهير" على القضاة.. وهذا ما فعله حزب النور "ممثل الدعوة السلفية بالإسكندرية" وما باركته الفلول والعلمانيين والليبراليين وقنواتهم.
كل فريق يسوق لنفسه مجموعة من المبررات قد تكون عقيدية أو واقعية لتمرير وجهة نظره وموقفه السياسي في تلك اللحظة فقط، وهذا ما يسبب اللبس والحيرة والتيه عند الناس، وهذا ما يُحدث التلاعب بالعقول، والذي يجعل الناس بعد فترة من تلك التجارب تكفر بالجميع.
***
إن على كل مسلم، وخاصة أبناء التيار الإسلامي والحركة الإسلامية إدراك الحق والباطل مجردًا عن "المصالح السياسية" و"المصالح الحزبية" و"المصالح الوقتية" ويدركوا أنهم يحملون قيمة أصيلة يقوم عليها هذا الوجود، وأن أي عبث بمعنى "الحق" سواء في نفوسهم أو نفوس من يدعونهم إلى هذا الحق، يقدح في مصداقيتهم، ويفشل عملهم، ويعطل مسيرة التحرر والانعتاق من تلك الظلمات.
لقد عُرف هذا الدين بحقه وعدله، عُرف أنه لا يحابي أحدًا، ولا يظلم أحدًا حتى ولو كان أعدى أعداءه.. فهو حق لوجه الله الكريم، ولهذا أنزل الله الكتب وأرسل الرسل؛ ليقوم الناس بالقسط.
هذا هو الحق، ولأنه حق.. فهو يواجه الباطل بكل قوة، بكل وضوح، بكل صراحة، بكل إصرار، بكل عزيمة.. لا يخجل، لا يداهن، لا يهرب، لا يخاف، لا يبرر، لا يتلجلج، لا يستأذن الباطل أن يعرض وجه نظر ! الحق ورأيه... كلا { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }[الأنبياء : 18] الحق يقول كلمته كاملة غير منقوصة ولا مبتورة ولا تراعي غير إظهار الحقيقة كاملة تامة ناصعة، لا يتردد وهو يقول كلمته، ولا يختار ما لا يزعج الباطل أو يغضبه، بل الحق قذيفة قوية مباشرة في جسم هذا الباطل ورأسه { فيدمغه } فإذا هو هالك و { زاهق }..
هذا هو الحق الذي تنتفض له الفطرة، وتستجيب له الروح، ويتفتح له العقل، وتدركه الناس فور سماعه، وهذا هو أصل "دعوة الإسلام" الذي بها انتشر في كل ربوع الدنيا.
أما الحالة التي نجد فيها الحق، مجرد "أداة" تُستهلك وتستخدم حسب الحاجة، ونجد الحق يحاول أن يداهن الباطل ويستأذنه أن يسمح له بالتعبير عن رأيه ووجهة نظره، وأنه سيحاول ألا يزعج الباطل أو يهينه، أو أنه يساوم الباطل على مساحة وجود.. فهذا أصل الداء، وهذا ما يجعل الناس تكفر بالجميع، وتكفر بهذا الحق الضعيف الخائف المتردد الذي يساوم ويفاوض ليحصل على حظه ونصيبه بعد موافقة الباطل.. وهذا ما يجعل الناس تكره وتعادي من يستعمل تلك الطريقة المُهينة للحق، الذي يجد نفسه في النهاية مجرد أداة وألة يستخدمها من يريد ليحقق بها مصالح ذاتية أو حزبية أو وقتية.
***
هذا ما يحدث من الحركة الإسلامية الآن وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور.. حدث في معارك كثيرة من قبل وأقربها " معركة الدستور" والآن "معركة القضاء"..
الإخوان تستخدم جزء من هذا "الحق" لتواجه به الخصم "القضاة" المتربصين بهم.. ثم تضغط بكل ما تستطيع، والخصم يضغط كذلك بكل ما يستطيع.. وعند نقطة "الأرض المحروقة" ـ أي خسارة الجميع ـ يتراجع كل فريق ليتفاوض على المكاسب، ويتفقوا فيما بينهم على مساومات محددة تفرضها طبيعة المعركة وقوة كل خصم..
ثم..
تنتهي المعركة، وتضع الحرب أوزارها، ويُوضع الحق في مخازن السلاح لحين العودة إليه في معركة أخرى. فلم تلك المعركة من أجله ولا من أجل إحقاق الحق، وإبطال الباطل.. مجرد مصالح وقتية حزبية.. يظن فيها الشخص "المتحزب" أن مصلحته الحزبية والذاتية هي مصلحة الحق والإسلام والوطن بل والعالم أجمع !
ولا عجب أن يستخدم كل فريق جزء من "حق" في معركته ضد الطرف الآخر، بل لا عجب أيضًا أنه حين تتبدل الأدوار والأماكن يُستبدل هذا الحق بحق آخر مناسب للموقعة الجديدة..
لا عجب إن كان حزب النور في السلطة أن تجد الإخوان تستخدم أسلحة حزب النور ورفقائه من الفلول والعلمانيين والليبراليين..
لا عجب أن تجد الإخوان تضع الأسلحة التي تحارب بها في معركة القضاء الآن عند أول بادرة من المساومة والتوافق.. وتترك باقي إخوانها من الحركة الإسلامية من الذين ظنوا أنهم يناصرونهم في قضية عادلة من أجل الحق والعدل، لأن الحق والعدل كان مجرد أداة في معركة سياسية وحزبية لا معركة من أجل الحق والعدل، ولا معركة من أجل الإسلام، ولا حتى معركة من أجل الوطن !
***
إذا كيف تكون المعركة والنصرة من أجل الحق، والحق فقط.. سواء في موضوع "تطهير القضاء" أو غيرها من المعارك؟
هناك 3 محاور رئيسية لنصرة الحق والعدل في كل معركة وهي على الترتيب:
1- محور العقيدة.
2- محور الواقع.
3- محور المرحلة.
1- محور العقيدة: هو المحور الرئيسي والأولي لأي معركة، لأن العقيدة هي رسالة المسلم في الحياة، وهي التي تستقيم معها كل الحياة، وهي الحق والعدل في أصله، وهي الأصل الذي يرجع إليه المسلم، وهي الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهي لا تتبدل منذ أن نزل الوحي على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غار حراء، إلى قيام الساعة.. وهذا المحور ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان والشخوص والأحداث، والصدع بهذا الدين هو طريق النصر الوحيد.
وفي "موضوع القضاء والتحاكم" وهي قضية أصيلة في العقيدة لا يتغير حالها كما قلنا بتغير الزمان والمكان، بل هو دين يدين به المسلم.. أن معنى "لا إله إلا الله" أنه لا مشرع إلا الله ولا حاكم غير الله، وأن الطاغوت الذي أمر الله تعالى الناس أن يكفروا به قبل الإيمان به ـ سبحانه ـ هذا الطاغوت هو: كل شرع غير شرع الله، وكل حكم غير حكمه..
وأنه الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، قال تعالى فيه: { ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الكافرون }.
وأن المحكوم الذي يرتضي التحاكم إلى غير شريعة الله، قال تعالى فيه: { فلا وربك لا يؤمنون، حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما }.
وأنه في حالة الضعف والإكراه.. تكون الحلقة الأخيرة من الإيمان هي: "الإنكار بالقلب" كما جاء في الحديث الشريف: "... ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"
هذا هو محور العقيدة باختصار شديد، وهذا محور الدعوة الإسلامية، وهذا هو الهدف الذي يجب على التيارات الإسلامية أن تعمل من أجله، وغير ذلك فهو العبث والصد عن سبيل الله، وتبديل دينه وشرعه.
1- محور الواقع:
وهذا هو الذي يتغير بتغير الزمان والمكان والشخوص والأحداث، وهذا هو الذي نجاهد لنعرفه، ولنبينه للناس كاملاً، وهذا الواقع هو الذي نجاهد لتغييره، ولتطويعه ليكون على ما أراد الله ورسوله..
وهذا الواقع بكل ما فيه من باطل، علينا مواجهته مواجهة حقيقية، مواجهة من يحمل الحق ويؤمن به..لا نجامل الباطل بحجة أنه واقع له ضغط وثقل، لا نتردد ونحن نُشرح الواقع تشريحًا دقيقًا، لا نتلعثم ونحن نقول أن قضاء مصر.. قضاء فاسد باطل من عدة وجوه:
الوجة الأول: أنه لا يتحاكم إلى شرع الله.
الوجة الثاني: أنه من أفشل النظم الإدارية في العالم.
الوجة الثالث: أن القاضي نفسه جاء إلى مكانه عن طريق وراثة النسب والعائلة أو عن طريق الرشوة.
الوجة الرابع: أنه القاضي جاء إلى مكانه هذا بعد موافقة جهاز أمن الدولة، ذراع المخابرات الأمريكية في مصر.
الوجة الخامس: أن القضاة أنفسهم متهمون بجرائم أخلاقية، وقضايا فساد وتزوير، يصعب بعدها الثقة في العدالة أو في القاضي نفسه، وأن هؤلاء القضاة تحركهم مواقف ومكاسب سياسية كأنهم هم الأخرون حزب يبحث عن مصلحته الشخصية، لا العدالة المجردة!
هذا واقع لا ينكره إلا كل مكابر، وهذه القاعدة لا تمنع من وجود رجال قضاة محترمين، وفضلاء، يبتغون العدالة والنزاهة.
2- محور المرحلة:
والآن، وبعد بيان المحور الأول "العقيدة" وعرفنا على وجه الدقة واليقين أين نحن منه، وعرفنا المحور الثاني "الواقع" وشرحناه تشريحًا دقيقًا كما هو بلا أدنى تجميل أو تزيف أو إخفاء.. جاء المحور الأخير وهو "المرحلة" ماذا نفعل الآن؟ وماذا نفعل الآن هو نتيجة تلقائية بعد معرفة العقيدة والواقع، و"مرحلة التغيير" تكون قدر الوسع والطاقة مع شخذ الهمم والقلوب والأرواح نحو ريادة هذا العالم..
فنقول أن التغيير يتم على محورين في عملية "إعادة بناء القضاء" ليكون ربانيًا لا مجرد عملية تطهير أو تجميل:
المحور الأول: هو محور العقيدة، وإعادة بناء المنظومة القضائية "مادة القوانين القضائية" بما لا يخالف شرع الله، لحين أن يقوم شرع الله كاملاً في حياتنا الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية.. وكل شؤون الحياة.
المحور الثاني: هو طرق تعيين القضاة ـ النظم الإداري للمحاكم ـ والمؤهلات التي يتوجب على القاضي أن ينالها ـ وغيرها من التفاصيل التي يعرفها أهل الاختصاص.
وعندما نتبى هذه الطريقة في عرضنا لموضوع "القضاء" ـ وغيره من أمثاله ـ يتبين للناس الحقيقة كاملة، و يتبين أننا لا ننادي إلا بالحق، والحق ولا شيء غير الحق.. لا مصالح شخصية ولا حزبية ولا وقتية، نقول للناس هذه هي العقيدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، بلا تحريف ولا تبديل، ولا إخفاء جزء وإبداء جزء منها حسب الحاجة ـ مثلما فعل اليهود ـ أو نجعل القرآن عضين أي نقسمه حسب حاجتنا ومصالحنا الشخصية.
ثم.. نقول للناس هذا هو الواقع، تعرفونه مثلنا وتعيشوه مثلنا، نشعر نبضكم وآلامكم ولسنا بعيدين عنكم، وكل عاقل حريص على أن يسود العدل أركان بلادنا وكل جزء فيها.
ثم.. هذا ما يتوجب علينا في تلك المرحلة أن نفعله، عندها، وعندها فقط يستجيب الناس، وتطمئن القلوب أن هذا هو الحق، وليختار الناس لأنفسهم ما يشاؤون { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }.[الأنفال : 42]

تعليقات
إرسال تعليق