نقطة التحول
وصل الرئيس مرسي - فك الله أسره - إلى كرسي الحكم، في سابقة تاريخية انتظرتها الأمة لأجيال.. فلماذا لم يستطع تحقيق أي خطوة إيجابية من وراء هذا الانجاز؟ ولماذا فشل، وانتكسنا هذه الانتكاسة؟ وأيهما كان أولى الوصول إلى كرسي الحكم؟ أم وجود أهل الحل والعقد، وأهل الشورى؟
إنها حقاً تجربة ستتوقف عندها الأجيال لدراستها والإمعان بدقة في كل دروسها..
وصل الرئيس مرسي إلى الحكم بدون أهل الشورى وأهل الحل والعقد.. وصل برغبة عموم الأمة، وحبها لدينها بعد أن استأمنته على ثرواتها ودينها، وأحسب أن الرجل من النبل والأمانة والشرف ما كان يتمنى به تحقيق السيادة ونصرة الدين.. ولكن الحياة ليست بالتمني فقد كان يجهل طبيعة المعركة وحقيقة الصراع واستحقاق شهادة التوحيد.
وفي الحديث: " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ اسْتَعْمَلَ عَامِلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، وَأَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ". [السنن الكبرى/18738]
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين".
وهذا المقال ليس حديثاً وتقويماً عن تجربة الرئيس مرسي، ولكنه حديث عن طبيعة العلاقة بين شخص الحاكم، وبين أهل الحل والعقد، وأهل الشورى. ونستأنس بتجربة الرئيس مرسي كمثال فقط.
قد يقول قائل: إن الرئيس مرسي أيده مشايخ وعلماء...إلخ فهل هؤلاء أهل الحل والعقد، وأهل الشورى ؟
الحقيقة الأمة كلها ليس لها مرجعية شرعية وسياسية.. وليس لها أهل للحل والعقد، ولا أهل للشورى في مراكز التوجيه والقيادة، وأما ما يسمى مشايخ وعلماء ممن ارتفع ذكرهم فهؤلاء غير مؤهلين لقيادة الدولة، وهم أقرب إلى "الدروشة" من العلم، وأبعد ما يكونوا عن مفهوم "رجل الدولة".. إذ أن أهل الحل والعقد والشورى، يشاركون مشاركة حقيقية في قيادة الدولة، ويؤمنون قرارات الحاكم الخطيرة، ويتحملون معه جزءاً من تلك المسؤولية الخطيرة تجاه الأمة ودينها وثرواتها.
لذا عند وصول الحاكم وهو عاري من "عقل" أهل الحل، و"بركة" أهل الشورى.. يصبح بلا هادي، ويتخبط في ظلمات المؤامرات، والصراعات.. وينتهي به الحل كما انتهى بالرئيس مرسي !
لماذا لم يستجب الرئيس مرسي لنصائح المخلصين حوله؟!
لأن هناك فرق بين استطلاع الآراء، وتقليب وجهات النظر، وبين الشورى الملزمة التي يتحمل تبعاتها قادة المجتمع، وأهل الحل والشورى. أي يتحمل النتيجة - سواء أكانت سلباً أو إيجاباً - كل المجتمع.. وليس أبلغ من دروس السيرة النبوية التي كان ينفذ فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - شورى أصحابه فيما لم يرد فيه وحي من الله تعالى.
ولأن الأمة لم تخرج ابتداء أهل الحل والعقد والشورى.. فيتصدر من يعيش في كهوف التراث، أو من يعيش منبهراً ومهزوماً بالحضارة الغربية، ومنهم من لم يخرج عن التقليد قيد أُنملة، ومنهم المخترق، والعميل وإن علّت الأسماء، وطالت اللُحى.. وكل أولئك لا يصلحون لتربية الأطفال فضلاً عن قيادة أمة في أشد لحظاتها الحرجة، واجتماع العدو عليها.
إن أهل الحل والعقد والشورى هم رجال دولة بالمفهوم النبوي والراشدي.. وللأسف نظم التعليم المحلية تُخرّج عبيد لا قادة، ونظم التربية في الحركة الإسلامية تُخرّج حزبي متعصب لشيخه أو جماعته.. شخص "أيدلوجي" لا رسالي، والفرق جد كبير.
ومن سمات أهل الحل والعقد والشورى:
ــ حسن البلاء في الإسلام، والحركة بهذا الدين.. والقدرة والكفاءة يحكم عليها الواقع، وتبرزها الحركة، ويعرفها المجتمع، ويعرف المتسمين بها، ويتميزون على موازين وقيم إيمانية تدفع بأصحاب الكفايات والمواهب إلى المقدمة.
ــ الاضطلاع بالمسؤولية تجاه قضايا الأمة المصيرية، والعمل على إحياء الأمة من خلال منهج التحليل والتشخيص والعلاج لا من خلال منهج الإدانة والحكم.
ــ الانتصار في معركة "استلاب العقول" التي تدور رحاها في نظم التعليم والتربية، والتي تحاول استلاب العقل المسلم، وتدميره، واستبداله بعقل غربي المضمون والقيم والموازين، وتدمر قدرته على الابداع، والحركة، والنقلة النوعية المطلوبة للأمة. وهي معركة ليست سهلة، فالعدو منذ مائتي سنة يعمل على استلاب كل القيم والمفاهيم، بل وتقديم دين جديد يحمل اسم الإسلام عبادة وشعائر، والعلمانية حكماً ونظام حياة !!
ــ خرجوا من "النمطية الفكرية" ولم يرضوا بما يُطرح لهم من الأفكار المعلبة.. سواء أكانت التي تعبد وتقدس تراث الملك العضوض، أو التي تنبهر بقيم وأفكار الحضارة الغربية، وعملوا على تحصين عقولهم بالوحي الرباني الصافي الخالي من تفسيرات الكهنوت، والتفسيرات المتأثرة بالعوامل الاجتماعية والسياسية من جانب، ومن الجانب الآخر تحصيلهم لما أنتجه ووصل إليه العقل البشري في مجالات فهم الواقع والعلوم المتعلقة به. حتى يصلوا إلى نقطة التوازن المطلوبة بين نور الوحي الرباني وبين أدوات وآليات فهم واقع حياتهم.
ــ الابداع تجاه الواقع المحيط بهم، وإرادتهم نحو التغيير الجذري، لا مجرد معالجة آثار المشكلات. والبحث عن حلول غير تقليدية تستطيع أن تأخذ المشكلة من كل أطرافها.
ــ التجرد والموضوعية فلا انتصار للذات أو للحزب أو الجماعة.. بل هي مصلحة الإسلام، وعموم المسلمين.
ــ الانتصار لرسالة الإسلام، وليس للايدلوجيا.. والدفع بالأفضل في كل مكان.
هذا من حيث الفكر والعقل.. أما من حيث تمثيل المجتمع ومراكز ثقله:
ــ فهم يبحثون عن الفضلاء الذين يرتضيهم عموم الناس في كل محله وبلد.
ــ ويبحثون عن أهل المال الحلال الذين تكونت لهم قوة اقتصادية.
ــ ويبحثون عن القادة العسكرين المخلصين للجميع، ولا يشعرون بالاستعلاء على غيرهم. ويحملون هوية إسلامية حقيقية.
ــ وغيرهم من ذوي الشأن والثقل الحقيقي الشريف.
إذن هي عملية تمثيل للقوى الحقيقية للمجتمع، وليس لمجرد رؤوس عددية، وتمثيل للقوى الشريفة المعبرة حقيقة عن من يرتضيه الناس بلا كذب ولا خيانة ولا تدليس.
***
عجزت الأمة عن إخراج هذا النوع من أهل الحل والعقد من حيث الرأي والفكر، وأهل الشورى من حيث تمثيل فئات المجتمع.. وهذا يعتبر "عقل" أي أمة، فإذا غاب هذا العقل تخبطت الأمة في ظلمات التيه والجهل، وتحول الكثير من أفرادها إلى "مهابيل".
لذا فإن وجود أهل الحل والعقد أهم من الوصول إلى كرسي الحكم.
وأقصد بالوجود هنا هو تصدرهم للمشهد، وقيادتهم للأمة، والدفع بهم ليكونوا في المقدمة، ويكونوا هم "عقل" الأمة. فكل أمة لا تخلو من العقلاء والمبدعين.. ولكن الفرق بين الأمم، أن هناك أمة تُصدر العقلاء وأهل الفكر والعلم، وأمة تُصدر الجهلاء وأصحاب المصالح وأبناء القبيلة أو الحزب !
***
ما الذي يمنع من أن يتصدر أهل الحل والعقد والشورى المشهد، ويأخذوا بزمام "القيادة" الشرعية والسياسية والفكرية للأمة؟
إنه "الغل" والبغضاء والشحناء والحقد والحسد، والرغبة في الشهرة، والجاه، وطلب حب الناس، ولهذا جاء هذا الدعاء: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر : 10]
ذلك لأن هؤلاء ستتلقاهم الأمة بمزيد من الحب والإجلال والتقدير.. مما يُشعر الآخرين - من غيرهم - بالحقد تجاه إخوانهم، ويتساءلون لماذا يأخذون هذا الحظ والنصيب من حب وتقدير الناس، ورفع الذكر بين العالمين.
وفي الحديث: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا : بَلَى، قَالَ : " صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ.. لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ". [جامع الترمذي/ 2446]
ثم تأتي أمراض الاستبداد المتفشية في الأمة من مئات السنين ومتجذرة فيها، لتُكمل مع "الغل" منع الوصول إلى "عقل راشد" للأمة، ويصبحا - الغل وأمراض الاستبداد - حائط صد منيع تجاه الخروج بالأمة من مرحلة "الملك الجبري والطواغيت".
إذن تبدو الآن ملامح "نقطة التحول" إلى الرشد:
ــ إنها البراءة من الغل والحقد تجاه كل المسلمين خاصة منهم أهل الفكر والتميز.
ــ إنها البراءة من أمراض الاستبداد التي فصلها القرآن تفصيلاً وهو يحدثنا عن بني إسرائيل.
ــ إنها البراءة من الحزبية والعصبية والانتصار للذات أو الحزب أو الأيديولوجيا.
ــ ثم الدفع بالأفضل والأجدر في كل مكان، بكل تجرد وموضوعية وحب ونصرة ونصح.
ــ ثم أخيراً تهيئة الأجواء، وتنظيف الهواء، وإفساح المكان ليحتل "العقل الراشدي" مكان "العقل الملوث" حتى يستطيع قيادة الأمة إلى الرشد.
ومن وراء هذه الملامح أيضاً نستطيع أن نفهم المقصود من قوله تعالى: { حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد : 11]ما بأنفسهم: من قيم وموازين وتصورات باطلة، ومن أمراض النفس وأدرانها.
وتصبح حركة الأمة ليست مجرد محاولة الوصول إلى كرسي الحكم وحدها - وهي في الأصل وصول "رسالة الإسلام" لا شخص الحاكم - ولكنها إخراج "أهل الحل والعقد والشورى" وإفساح المجال لهم، وتطهير الأجواء، فلن تصل الأمة إلى الرشد حتى يتصدر أولاً "العقل الراشدي" للقيادة، وتتحول القيادة من مجرد شخص الحاكم إلى قيادة عقلاء الأمة، ومن ثم يتحول القرار إلى إجماع ويتحمل الجميع نتائجه.
وعندما تفشل الأمة في إخراج أهل الحل والعقد، فهي بالأولى ستفشل في الحكم.. لأنه حكم بلا عقل، وبلا إجماع، وفيه ملامح الاستبداد، وكل محاولة لإنتاج الاستبداد بأي صورة من الصور فلن تُخرج الأمة أبداً إلى "الحكم الراشدي" لأنها بالفعل تعيش "الحكم الجبري والطواغيت" فما الجديد الذي يُقدم لها.. صورة استبداد جديدة مثلاً؟!
إنها بالطبع في غنى عنها.. ذلك لأنها تريد الخروج إلى "الرشد" ولن تخرج إلا بإخراج "العقل الراشدي" الذي ينوره الله - سبحانه - بنور الوحي، وبالحكمة:
{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [النور : 40] { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [البقرة : 269]
***
لن ينزل نصر الله، ولن تحضر معيته سبحانه.. إلا للفئة التي قامت لتُحكم شرعه، وتقيم دينه، وتحمل رسالته.. وتجاهد من أجل ذلك، ثم لا تنتظر من وراء ذلك أي جزاء مادي أو معنوي.. سوى ابتغاء وجه الله الكريم.
المادي: السلطان، الجاه، المال، الحكم...إلخ.
المعنوي: الشهرة، الثناء، التقدير، طلب رضى الناس ومحبتهم...إلخ.
وليعلم من ينتظر شهرة أو جاه من وراء "دين الله" فله الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وليعلم من في قلبه حقد أو حسد أو غل أو ضغينة تجاه إخوانه فهو يحلق الدين، ولن يستطع أن يتحرك به قيد أُنملة.
07/05/2014م
تعليقات
إرسال تعليق