اسقاط النظام
تكاد تكون هذه الجملة الصغيرة تلخص لنا كل التناقضات والأخطاء والحيرة والخلل والاضطراب والتيه الذي نحن فيه منذ "تنحي مبارك" حتى الآن.. هذا الجملة هي مربط الفرس في كل الأحداث الجارية الأن..
يظن معتقد هذا القول، أن هناك ثورة تمت، وأن هناك نظام سقط، وعليه فهو ينتظر مكتسبات الثورة، وأهداف الثورة، وينتظر تحول كامل في مؤسسات الدولة، وينتظر الآمال والأحلام، بل وينتظر دولة جديدة ! ويتعامل مع حوله من أفكار ومؤسسات وأحزاب وجماعات على هذا الأساس!! بل وشعر بالأمن والتفوق على المؤسسة الأمنية للنظام الذي اسقطه!! هذا التصور الطفولي الساذج العاطفي سبب معظم الكوارث التي حدثت والتي نعيشها الآن.
فأولاً: إن الهتاف لا يُسقط نظام.. هذه حقيقة أولية بسيطة يجب أن تكون في الحسبان، حتى لا تختل الموازين في أيدينا.. وهي ليست موازين عادية، بل موازين تحدد مصير أمة، ومستقبل أجيال قادمة.. وأي خلل - من أي نوع - يسبب كثير من المصائب والانتكاسات !
وثانياً: إن النظام لم يسقط حقاً، وهذه أكبر خدعة للثورة المصرية التي أُجهضت ! لقد خَدع الجميع الثوار، وأقنعوهم أنهم قاموا بأعظم ثورة في التاريخ، فعاشوا نشوة الانتصار.. حتى السُكر والثمالة !!
إن كل ما فعله "النظام" ليحافظ على وجوده؛ هو التضحية برأس ( انتهت مدة صلاحيتها ) وذلك لـــ:
(1) لأن هذه الرأس لم تعد قادرة على المواجهة، ويجب تغييرها.
(2) حفظ مصالح النظام، وملفاته، وأدواته، وعلاقاته المحلية، والإقليمية، والدولية.
(3) لإبعاد ابن مبارك - مدني - عن حكم نظام عسكري عتيق، وراسخ.
(4) وأخيراً: اقناع الثوار أنهم حققوا ثورتهم، وانتصروا وهزموا الطاغية، واسقطوا النظام !!
وهذا النظام تحرك من خلال دراسات علمية دقيقة في عملية إجهاض الثورات، ومنها "في مواجهة التمرد المدني" وطرق احتواء الثورات.. وإذ لم تجنح الطرق الناعمة في "إجهاض" الثورة، فلم يكن لديهم أدنى حرج أو شبهة تردد في استخدام كل أنواع القوة العسكرية.. حتى ولو قتلوا جميع الثوار، ولكن هذا الاختيار خطورته في نشوء المقاومة الشعبية والجهاد.. فيتم استبعاده حتى اللحظة الأخيرة، وحتى يوافق عليه الأسياد في الغرب !
نعم هناك لحظات ضعف، وخوف مر بها النظام، ولكننا لم ندركها، ولم نستغلها كما يجب؛ فمرت عليه بسلام، وعاد أشرس مما سبق.
وهذا النظام مستعد للتضحية - بالسيسي مثلاً - وبأي شخص آخر؛ ليبقى "كل" النظام، إنه منظومة كبيرة من علاقات عسكرية واقتصادية ومدنية، مرتبطة بشبكة علاقات اجتماعية قوية جداً وواسعة جداً؛ مُكونة طبقة اجتماعية راسخة من الفساد وُلدت في الحرام وعاشت به.. وهي التي تتحكم في كل صغيرة وكبيرة في مصر، وهي على أتم استعداد للدفاع على مصالحها حتى الموت، فهي معركة وجودية صفرية بالنسبة للنظام..
ولقد بدى هذا النظام:
(1) أنه لا يقبل بالحلول الوسط، ولا ينخدع بالمداهنة، ولا يقبل حتى إصلاح جزئي محدود رغماً عنه.
(2) أنه متوحش لأقصى درجة، ولن يتنازل عن أي مكتسبات له، حتى ولو دونها الموت.
(3) أنه يعرف إذا خضع للمسألة، ولحكمٍ عادل.. فهو منتهي لا محالة، لذا فهو يستبق هذه الحالة قبل وقوعها.
(4) أنه كتلة وحدة، ومنظومة متكاملة.. إما أن تعيش معاً، أو تموت كلها؛ ولهذا فهم "أولياء" بعض، ويدافعون عن بعضهم البعض.
(5) أن النظام يقبل "المعارضة والإصلاح الجزئي والعمل الخيري والديني... إلخ" بشرط أساسي أولي: العمل بإذنه، وداخل إطاره.. وبالقدر الذي يسمح به.
هذا من ناحية النظام من الداخل، أما من الناحية الإقليمية: فهي اشبه بحالة الداخل لكل على مستوى بقية الدول في تشابك العلاقات والمصير، ومن الناحية العالمية: فما كل هذه الأنظمة إلا أدوات للمحتل، وساهرة على مصالحه، وأمنه.. وسرقة الثروات لصالحه ! وهي تفهم طبيعة العلاقة معه جيداً، وتدرك كيف تستطيع نيل رضاه، وتعرف ما الذي يغضبه.. فتتجنبه، أو بالأحرى تأخذ الأذن أولاً؛ وإلا اسقط تلك الأنظمة في ساعات معدودة.
إن الهتاف لم ولن يسقط نظام.. ومن يريد اسقاط نظام حقاً فعليه أن يستعد لمواجهة داخلية وإقليمية وعالمية، الأمر ليس بسذاجة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية.. هذه منظومة دولية قامت بعد حرب عالمية راح فيها ما يقرب من 62 مليون قتيل، وتشكلت موازين القوى الدولية عليها، ونحن - بلادنا المسلمة - ميراث وغنيمة لهم ! لا يفرطوا فيها هكذا بسهولة.. لمجرد هتاف، وهم لن يسمحوا بالحرية والعدالة والكرامة هكذا لمجرد هتافك.. إنهم يعرفون أن هذه أول الغيث وبداية المطالب التي لن تنتهي إلا بالاستقلال التام..
وإنهم - منذ ميراثهم لنا حتى هذه اللحظة - لم يغفلوا عنا، بل إنهم يراقبون كل فكرة، ويجهضون كل حركة، ويستبقون كل فعل.. ويتجسسون على كل شيء، ولهم أذرع في كل مكان !
نعم.. إنهم ليسوا قدر الله سبحانه النافذ، وهناك لحظات ضعف كثيرة يمكن أن ننفذ من خلالها، وهناك تهاوي في تلك المنظومة الدولية، وهناك أزمات اقتصادية عالمية.. وهناك منح ربانية كثيرة، ولكن ما قيمة كل ذلك.. إذا كان هناك خلل في العقيدة أولاً، ثم في الفكر ثانياً؛ الذي يُخرج سلوكاً منحرفاً، يُوقعنا في التيه كلما حاولنا الخروج منه !
إن ثورة يناير أُجهضت ليست بسبب قوة النظام.. كلا، إنها أُجهضت بسبب أخطاءنا نحن، وإن إلقاء اللوم على النظام أو غيره.. يقطع علينا كل طرق التصحيح، إن المشكلة في فكرنا وتصورنا نحن.. ومن هنا تبدأ المعالجة؛ حتى يكون "جنين" الثورة القادمة مُحصن من كل الأمراض، ونال كل الأغذية والفيتامينات التي بها يشتد عوده، وبها يقدر على المواجهة.. ولن تستطيع أي قوة في الأرض أن تهزم أمة اجتمعت على الحق والعدل الرباني، ومضت في سنن الله.. متوكلة عليه، تبتغي رضى وجهه الكريم.
روابط ذات صلة:
تعليقات
إرسال تعليق