دولة الخلافة والدولة القومية
دولة الخلافة هي النظام السياسي والاجتماعي المنبثق عن الإسلام، وفيها:
(1) الاجتماع على الإسلام، والانتساب للشرع.
(2) تحكيم شرع الله.. بحدوده ومقاصده.
(3) حمل رسالة الله إلى العالمين، ورفع علم الجهاد.
(4) عدم التقيد بحدود الأرض، وفتح البلاد والعباد لعلو شرع الله كنظام.. وحرية المعتقد لمن شاء.
(5) التفرقة على أساس الدين لا على أساس اللغة أو القوم أو الجنس أو تخوم الأرض أو اعتبارات أخرى غير اعتبار الدين.(6) الولاء والبراء فيها منعقد على الإسلام.. فالولاء لله ورسوله وللمؤمنين.. والبراء من الشرك والكفر والطاغوت والكافرين.
(7) إقامة الحق والعدل الرباني.. الذي من أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب.. والناس كلهم أمام حكم الله وشرعه سواء، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
هذه الدولة هي التي أنشأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وامتدت حتى حكمت من الأندلس غرباً إلى حدود الصين شرقاً.. مرت بفترات انهزام وانحسار في فترة "الملك العضوض" وتنوعت هذه الفترة ما بين الرشد، والظلم والطغيان.. لكن في النهاية بقي كيان "الدولة الإسلامية" كما هو، وكل إصلاحات وتغيير إنما كان يستلزم رفع الظلم.. والعودة إلى الرشد داخل كيان "الدولة الإسلامية" حيث الاجتماع على الإسلام، والانتساب للشرع.
مع مجئ الحملات الصليبية، وقيام الحرب العالمية الأولى والثانية.. سقط كيان "دولة الخلافة" من حيث المعنى والاصطلاح والمضمون والشكل، وتم هدمه نهائياً.. واستبداله بـ "الدولة القومية".
وأصبحت الدولة القومية هي الكيان الشاذ الذي يجمع المسلمين وفيها:
(1) الاجتماع فيها على أساس القوم، والحدود، واللغة.. والانتساب فيها لـ "العلمانية".
(2) الاحتكام فيها إلى القوانين الوضعية، فهي الأصل في الحكم والتشريع.
(3) التقيد بحدود الأرض.. والانتساب لها، فصارت هي "محدد" العلاقة بين المسلمين.
(4) الولاء والبراء فيها للأرض.
(5) الهيمنة والتبعية للمحتل الذي أنشأ هذه الصورة من "الدولة القومية".
(6) التفرقة فيها ليست على أساس الدين.. فالدولة على مسافة واحدة من كل الأديان، إنما التفرقة على أساس القوم والحدود...إلخ.
(7) لا تحمل رسالة سوى ادعاء العمل على رفاهية القوم، والازدهار الاقتصادي.
هذه الدولة القومية.. على النقيض تماماً من دولة الخلافة الإسلامية، ومناقضة تماماً لرسالة الإسلام، وهدفه.. والطريق الذي يسير فيه.
نشأت الدولة القومية كأحد مخرجات "العلمانية" فإذا كانت الخلافة هي الوجه السياسي والاجتماعي لـ "الإسلام".. فالدولة القومية هي الوجه السياسي والاجتماعي للعلمانية.
ولما تم للمحتل الصليبي تقسيم دولة الخلافة الإسلامية.. وشرذمة الأمة الواحدة، ظن البعض أن المحتل الصليبي قسم دولة الخلافة إلى مجموعة دويلات فحسب! وهذا التصور غير صحيح، المحتل الصليبي دمر فكرة "دولة الخلافة" من أساسها.. ثم فتت الأمة على أساس دين "العلمانية" فجاءت هذه الدويلات التابعة له، وهويتها على أساس العلمانية !!
والعلمانية هو التطور الطبيعي للنصرانية، والوجه الآخر لها.. وهي من أقصى درجات الإلحاد، فلما أفلست النصرانية، وثارت عليها أوربا.. استبدلتها بالوجه الآخر وهو "العلمانية" أي: عبادة الحياة الدنيا وملذاتها، وأهواء البشر - بدلاً عن عبادة البابا والإمبراطور! - وإبعاد أي مكون أو تأثير لـ "الدين" عن وجه الحياة البشرية.. تحت أي ذريعة: كونه مقدس، كونه يُفرق، كونه اختراع...إلخ المهم أن يتم إبعاده، وإطلاق الإنسان من كل قيد.. ووضع الإنسان مكان الإله، فهو المقدس الوحيد!
وانطلق الصليب يُبشر بالدين الجديد "العلمانية" وجعله هو الدين الوحيد المعتمد الذي على البشرية كلها أن تفيء إليها.. واستخدمت كل ما وصلت إليه من علم وتقنية ووسائل اتصال وقوى عسكرية لفرض نمط الحياة العلماني في كل شيء: في المعتقد والتصور، وفي القيم والموازين، وفي الفكر والشعور، وفي النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي المأكل والملبس، وفي التعليم والثقافية، وفي الفن والأدب والمسرح والسينما... إلخ.
حتى تكونت شبكة مصالح اقتصادية عالمية تراعها القيم العلمانية، فنمط الغذاء والملبس - مثلاً - الذي تُقره أمريكا، يجري تعميمه على أرجاء الأرض كلها.. وجعله هو القيمة الصحيحة، والمثل الأعلى.. الذي على البشرية كلها تقليده، واتباعه.. ومن تخلف عنه فهو الرجعي القديم الذي فاته ركب التقدم الإنساني !!
وأصبحت "الدولة القومية" هي الصورة الوحيدة المعتمدة للاجتماع الإنساني، وتم إنشاء هيئات الأمم، والمجالس الدولية باختلاف مسمياتها وأهدافها لحماية هذه الدولة.. وهذا الدين.
وفي الدولة القومية المنبثقة عن "دين العلمانية" يصبح "معتقد" الفرد.. حرية شخصية لا تمنع الدولة الفرد ممن ممارسته، بشرط أن لا يتعدى على دين العلمانية.. أو يتجرأ على الخوض في الحياة العامة، فحرية المعتقد للفرد مكفولة بشرط الحفاظ على هوية الدولة العلمانية.. وعدم التعدي على مبادئ الدولة القومية.
وأصبح مسمى "الدولة الدينية" مستقبحاً شنيعاً مقززاً.. هكذا فرضته وعممته الدولة القومية، وجعلته صورة قبيحة مستوحاة من جرائم الكنيسة في العصور الوسطى.. وأصبح الناس أمام فرضيتين: إما "الدولة الدينية" حيث تسلط رجال الدين كما حدث لأوربا في عصورها الوسطى المظلمة.. أو "الدولة المدنية القومية العلمانية" حيث حقوق الإنسان، والحريات والديمقراطية... إلخ، والحقيقة لم يكن هناك ثمة اختيارات للناس، فالدولة القومية فرضت نفسها من خلال الثورات والحروب التي كادت أن تأكل أوربا كلها، ولكن يُقال مصطلح "الدولة الدينية" على سبيل الماضي البغيض الذي هربوا منه وانتصروا عليه..!
وتم فرض هذه الصورة على بلدان الأمة الإسلامية.. وتمت عملية إلغاء وتقويض لمجرد التفكير في بديل ثالث يخرج من رسالة الإسلام واستمر قرابة ألف وثلاثمائة عام وهو "دولة الخلافة".. وعلى المسلمين الالتزام بمبادئ الدولة القومية، وها هم على مبادئها منذ سقوط الخلافة حتى الآن، وورثت الأمة الذلة والهوان، والهيمنة والتبعية للصليب، وضياع الثروات.. ومن قبل كل ذلك ضياع الدين ذاته !!
* * *
تعليقات
إرسال تعليق