سبيل الدعوة

الدعوة.. بين الرفق والشدة، وبين التدرج والحسم
الدعوة إلى الله: هي الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 256]
الكفر بالطاغوت.. سواء أكان هذا الطاغوت في:
الاعتقاد والتصور: بأن يكون مع الله أو من دون الله شريك في الخلق أو الأمر أو التدبير أو البعث أو الحساب أو الجزاء... إلخ من خصائص الألوهية والربوبية.
أو العبادة والنسك: بأن يكون مع الله أو من دون الله شريك في العبادة أو التوسل أو الذبح أو الدعاء.. أو أي صورة من صور العبودية... إلخ من صور العبادة والنسك التي يتفرد بها الخالق سبحانه بلا شريك.
أو الحكم والتشريع: بأن يكون مع الله أو من دون الله شريك في التشريع، والأمر، والحلال، والحرام.. أو يكون مع الله أو من دون الله شريك يخضع له البشر ويدينون له، فالتشريع أخص خصائص الألوهية، والدينونة لهذا التشريع أخص خصائص الربوبية([1]).
أي: توحيد الله - سبحانه - بلا شريك فيكون له الدين الخالص التام الكامل: { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر : 3] توحيد الله في الاعتقاد والتصور، وتوحيده في العبادة والشعيرة، وتوحيده في الحكم والتشريع، والولاء والبراء على ذلك.
ودعوة التوحيد هذه أثقل من ملء الأرض ذهباً، ولن يدخل أحد الجنة إلا بها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ" [السنن الكبرى للنسائي/ 2843] وأي شيء يمس جنابها فهو الظلم العظيم، والفساد الكبير: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر : 65] وهذه هي بداية الطريق، ولا طريق بدونها، وكل من تجاوزها - بأي حجة - فقد دخل في عمق التيه البعيد.. والضلال المبين.
كيفية الدعوة ؟
الرفق والشدة:
الرفق: بجهل الناس وضعفهم، والتحنن عليهم، و(الحرص) على دينهم، وعلى نجاتهم، وتقديم لهم رسالة ودعوة ( أثقل من الأرض كلها ذهباً ) والداعية متفهم لواقع الناس، ومشكلاتهم، ويستمع إليهم في اهتمام، ويقتطع من وقته، وماله، وعمره، ومشاعره.. حرصاً على الناس ودينها، فيطرق عقولهم بأدب، ويلمس أرواحهم برفق، ويدخل على نفوسهم من كل طريق.. يدرك ( واقع الجاهلية المعاصرة ) حوله، ويعرف مدى إفسادها لعقول الناس، وقلوبهم.. فيضع ذلك في حسبانه وهو يدعو الناس إلى عقيدة التوحيد، وإقامة دين الله، وتحكيم شرعه..
فيرد شبهات الناس المخدوعة والمغيبة والتائهة بحرص وحب واهتمام ورفق ولين ووعي.. كما قال تعالى: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل : 125].. ويُبين لهم عظمة هذا الدين، وهدفه، وطريقه.. ومراد الله منه. ويكشف زيف الجاهلية، وتزيين الشيطان للبشر، ويفضح الفراعنة والطواغيت، ويهون شأنهم في قلوب المسلمين، في مقابل إجلال الله - سبحانه - وتعظيمه، حتى تعود القلوب خالصة لوجه الله الكريم، ترجو في كل نية وفعل ابتغاء مرضاته هو - جل جلاله - لا رضى العبيد.. فهو يدعو على "بصيرة" بصراط الله المستقيم، ومراد الله.. لا أهواء البشر: { قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف : 108]
*  *  *
الشدة: وهناك جماعة أخرى من المدلسين.. الذين يُحرفون الكلم عن مواضعه، يقدمون الدين في غير الصورة التي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتبعون "سُنة بني إسرائيل" في انحرافهم عن الدين، فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.. ويخفون بعض، ويظهرون بعض.. ويجعلون من الدين "أداة" تخدم اختياراتهم السياسية والمادية والواقعية.. فهؤلاء الكذبة المدلسون.. الداعية يكون عليهم أشد ما يكون، فيفضحهم من كل طريق، ويكشف كذبهم للناس.. وقال تعالى فيمن فعل فعلهم: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ } [الأعراف : 176] { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة : 5]
*  *  *
التدرج والحسم:
التدرج: كثير من الناس رضعوا الجاهلية منذ نعومة أظفارهم، فلا يعرفون عن الدين سوى صلاة الجمعة، والقراءة على الميت..!! وهؤلاء يأخذهم الداعية برفق نحو الإسلام، ويحملهم على طريق الحق بروية.. فلا يُعقل أن يبدأ الداعية مع هؤلاء بقيام الليل.. وإنما يبدأ بالتزام الصلاة، وتطهير القلب لها.. الصلاة على قاعدة من التوحيد لا الشرك - في أي من صوره - ثم بعد التزام الفرائض.. وتشبع القلب بها - وقبلها بـ ( حب الله ) - تأتي القربات والنوافل وغيرها من الطاعات.. والقرب من الله جل جلاله، هذا جانباً من التدرج في أمر الدعوة.
الحسم: الداعية يحسم قضايا من أول لحظة يبدأ فيها دعوته، وهي: الكفر بالطاغوت، وبالطواغيت.. فلا مداهنة، ولا تصالح، ولا مواربة، ولا تدليس، ولا غبش.. الكفر بـ "كل" الطواغيت.. سواء هذه الطواغيت في العبادة أو في التشريع أو في الحكم أو في الإيمان...إلخ الداعية يحسم الطريق إلى التمكين، فلا ينزلق إلى "استحسانات العقل"، ولا "توهمات الفكر"، ولا "البرجماتية الوصولية النفعية".. إنما يحسم الطريق كما قرره الله - جل جلاله - لعباده المؤمنين.. وهو "الجهاد في سبيل الله".. الداعية يحسم أمر "الجاهلية" كلها.. ويلتزم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها في وصيته الأخيرة في "حجة الوادع" ( ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع )..
الداعية يحسم أمره تجاه الذين يميعون قضايا الدين، والشرع، والتمكين.. ويدخلون في سُبل متفرقة مُهلكة، ويحيدون عن صراط الله المستقيم: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153]
 الداعية يفضح، ويكشف أولئك المضيعين المميعين لدين الله، فلا كرامة لهم.. بل هم أعداء أنفسهم، وأعداء للناس، ومبدلون لدين الله، ويضيعون على الناس: رسالة "أثقل من ملء الأرض ذهباً" تحت دعاوى شتى، يلحنون فيها.. فينخدع الناس في دعواهم!! وإن هم إلا ضالون.. مضلون!!
*  *   *
يخلط بعض الطيبون بين الرفق والشدة، والتدرج والحسم.. فيجهلوا موضع كل منها، ويحسبون أن الدعوة كلها استكانة ولين وتربيت على أهواء الناس، أو هي قسوة وشدة وحسم! ولهؤلاء أُبين لهم الفرق..
وهناك فئة من أصحاب "دين البرجماتية" و"دين الإسلام المدني الديمقراطي" لا تجهل هذه الفروق.. ولكن لا تعنيها ابتداء، فهي تجعل من "دين الله وشرعه" مطية خادمة لأوضعها البرجماتية!! ولا يعنيها "دليل شرعي" فهي تختار الدليل.. حسب مصلحتها الخاصة، فالدليل "خادم" لأوضعها.. وليس الدليل هو "المحدد" لطريقها.. وهذه الفئة من أخطر الفئات على الإسلام، وعلى الفكر الإسلامي.. وعلى طريقة التعاطي مع الإسلام، وهذه الفئة يجب على المسلم الحذر منها، والتحذير منها.. حتى لا يترك "دينه" - الذي هو أصل سعادته في الدنيا والآخرة - في يد حفنة حقيرة ممن اتخذوا دينهم هزواً ولعبا.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ. هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية/18: 20]
*  *   *
وفي هذه الحياة طريقان: إما طريق الإسلام.. وإما طريق الكفر.
وفي الآخرة مصيران: إما الجنة.. وإما النار.
يتجمل الكفر، ويتستر في صور شتى، ويُسمونه بغير اسمه.. بل يسمونه بالحق، والمنطق، والعدل، والمصالحة، والإنسانية...إلخ!! يتستر الكفر في صور شتى منها في عصرنا: العلمانية ومشتقاتها من ( الديمقراطية، والليبرالية، والاشتراكية، والرأسمالية، والشيوعية، والقومية... إلخ من زبالات الفكر الوضعي ).. يتنوع ويتلوى ويتنكر ويتخفى ويختلط، ويتفرق في سُبل شتى.. لكنه في النهاية "الكفر"!
والإسلام.. صراط مستقيم: بدايته.. الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.. توحيد، ودين خالص لله وحده لا شريك له، ونهايته.. الجهاد في سبيل الله لإقامة دين الله، وتحكيم شرعه في "كل" أرضه..
{ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153]
أكبر مجرم في حق الناس، وفي حق الدين، هو ذلك الذي يحاول أن يجمع بين الإسلام والكفر في صوره المختلفة كـ العلمانية، وغيرها..
هذا المجرم الملعون: يحرم الناس من كل شيء، من الإسلام.. ومن متاع الدنيا القليل.
هذا المجرم الملعون: عندما يحاول الجمع بين الإسلام والعلمانية أو الإسلام والكفر يخسر كل منهما.. فأي شرك مع الإسلام يحبط الإسلام كله، والإسلام يعطل عمل العلمانية، والعلمانية تعطل عمل الإسلام.. فلا الناس نالت الإسلام، ولا نالت متاع الدنيا القليل..!!
كل هذا لأن هذا الملعون "استحسن" فكرة جمع الناس في "نقطة مشتركة" بين الإسلام والكفر؛ فخسر الناس دينهم، وخسروا دنياهم.
هذا الملعون.. موجود بيننا في صور شتى، وبحجج كثيرة، وشبهات مختلفة، أينما ثقفتموه فالعنوه، واضربوه بالنعال، ولا تجعلوا له عليكم سبيلا.
*  *   *
موضوعات ذات صلة بـ "الدعوة":
موضوعات ذات صلة بـ "العلمانية":



([1]) الدينونة تعني: الخضوع لله سبحانه، فهو مالك يوم الدين، والكل له يَدين، ويخضع، وهو الذي يحاسب ويجزي ويعاقب.. جل جلاله. وهذه من أخص خصائص الربوبية.. كما قال تعالى: { الحمد لله (رب) العالمين }. { مالك يوم (الدين) } فالآيات هنا فيها دلالة الألوهية والربوبية .. فالله هو الذي ( يُشرع لعباده ) فهو الإله سبحانه، وهو الرب الذي يَدين الخلق لما شرعه.. فلذا كانت "الفاتحة" التي يبدأ بها المسلم طريق الإيمان، ويكررها في اليوم 17 مرة.. غير السنن والنوافل.
والطاغوت: يُدين الناس لنظامه وحكمه، ولا يجب على الناس أن تصرف الدينونة لغير الله، بل يجب عليها أن تكفر بالطاغوت..
وفي النظام الإسلامي: الخليفة والحاكم والنظام الإسلامي إنما يستمد (سلطانه، وشرعيته) من الانعقاد على كتاب الله، والانتساب لشرعه، والتحاكم إليه.. فإذا سقطت عنه هذه (الشرعية) سقط سلطانه؛ فلا يَدين المسلم له.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شبهات حول فكر قطب

الجيا والدولة

تكفير المتوقف في التكفير