أمراض القلوب

أثر الغل والحسد والبغضاء في هلاك الإنسان
قال تعالى: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر : 10]
وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " [مسند الإمام أحمد/1375]
الغل، والحسد، والبغضاء، والحقد.. هي أمراض تفتك بـ "مستقبلات الإيمان" في القلب، وتطفأ نوره، وتفسد وظيفته ! فالقلب عبارة عن: وعاء لها جدران شفافة.. هكذا يكون على الفطرة، هذه الجدران الشفافة هي "مستقبلات الإيمان" وعندما يقذف الله في قلب عبده من نوره.. يضيء القلب، ويشرق.. فهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ [صحيح البخاري/51] وتظل هذه "المضغة" مظلمة.. حتى يأتيها نور الله: { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [النور : 40]
يزداد هذا القلب ضياء ونوراً.. مع كل طاعة، ومع كل نجاح في الابتلاءات، فيعود القلب أبيضاً سليماً نقياً، تعمل فيه "مستقبلات الإيمان" بكفاءة عالية، ويتسع وعاء القلب، وينمو، حتى يحتوي الوجود من حوله.. ويلمس بديع صنع الله في كل خلقه، ويدرك آثار رحمته وحكمته في الكون، وينهض بأعباء الخلافة الراشدة على الأرض..
ولكن يصيب هذا القلب "أمراض" خطيرة منها: الحسد والبغضاء والغل.. فتُعطل "مستقبلات الإيمان" في القلب، وتتكاثف حول جدران القلب "الظلمة"، ويضيق وعاء القلب أكثر وأكثر.. حتى يغشاه الظلمة: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14] ثم ينغلق القلب فلا يعود إلا كتلة صماء مظلمة: { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [التوبة: 87] فيكون القلب أسوداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولا تنفع فيه موعظة، ولا يُخيفه وعيد ! قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"[صحيح مسلم/211]
فلا يستطيع القلب أن يستقبل "نور الله"، ويعجز عن التوبة "ويتشرب" المعصية والكفر.. حتى يجف القلب، ويضيق.. ويتحجر! { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74] فيعجز عن الاستجابة، ويستكبر عن سماع الحق، ورؤية دلائل الإيمان.. فيكون هذا هو "العمى": {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ويعجز عن الإيمان: { وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [يونس: 97]
والحسد والبغضاء والغل.. هو بداية المرض، وعلى قدر درجته وشدته تكون الظلمة، فالبداية "الانحراف" عن صراط الله المستقيم قليلاً.. ونهاية المرض "الكفر" - والعياذ بالله - لذا فهو أمر جد خطير فيه نجاة الإنسان أو هلكته !! لذا فكان الحسد والبغض وتوابعه "الحالقة التي تحلق الدين" ! وليس مجرد خطأ أو بعض أذى يصيب أخلاق الإنسان أو سلوكه.
* *  *
تنشأ أمراض القلوب هذه من "الكبر" الذي هو ذنب إبليس الأول.. وهو "المرض" الذي يحاول أن ينقله إبليس لبني الإنسان، بعد حادثة السجود.. التي استحق بعدها اللعن والطرد والعذاب !
ومن هنا كانت البداية..
إبليس "استكبر" عن الاستجابة لأمر الله.. في المقام العلوي!! { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } [ص: 75] وقال: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ }  [الأعراف : 12] فجاءه الجواب: { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [الأعراف : 13] وكان عقاب "الكبر" من جنس العمل؛ فكان "الصغار".. وأصبح إبليس هذا هو "المخلوق" الوحيد العدو لبني آدم، بينما كل غيره من المخلوقات مسخر للإنسان: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الجاثية : 13] ونشأت عداوة أبدية بين إبليس والإنسان.. ظن فيها إبليس أن الإنسان هو سبب لعنته وطرده من رحمة الله، فإبليس استكبر في أمرين: (1) عدم طاعة الله في أمر السجود لآدم. (2) عدم الاعتراف بأن الإنسان هو مجرد من أظهر حقيقة نفسه المُستكبرة، وأن الخلل فيه هو، لا في الإنسان الذي كان "موضع السجود" أو الابتلاء.
ولم يلتفت إبليس لخطئه ولا لجريمته، بل ظل في هذا الاستكبار مصراً عليه، لم يعترف بذنبه، ولا بخطئه، بل تبجح به.. بل ألقى باللوم والمسؤولية على الله - جل جلاله - واعتبر أنه - سبحانه! - هو الذي أغواه!: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف : 16] فلم يعتذر إبليس ولم يطلب  الرحمة، بل طلب الإمهال ليوم الدين لينتقم من بني آدم ! الذي ظن إبليس أنه سبب لعنته، بينما سبب اللعنة هو ما بنفس إبليس من استكبار وعصيان لله سبحانه؛ وكان سينكشف ما بنفس إبليس سواء في حالة رفض السجود لآدم أو غيرها ! فاستحق لعنات الله سبحانه ولعنات المؤمنين إلى يوم الدين، ثم هو في النهاية في الجحيم: { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ص: 79] فكان اللعين يُخطط لإغواء كل بني آدم حتى يوم الدين!
ولحكمته الله - جل جلاله - في ابتلاء الإنسان، ترك هذا العدو الإبليسي.. ليمتحن به الله - سبحانه - الإنسان.. { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ. إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ }  [ص: 80، 81] هل سيستمع إلى نداء الله، ويعبد الله خالقه، ورازقه.. أم سيستجيب لعدوه الأزلي الشيطان، ويستجيب لإغوائه ويعبده!! بعد أن أدرك الشيطان مداخل الإنسان، وهي "هواه": { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يس: 60، 61] فكل عابد لغير الله، هو في النهاية وفي الحقيقة يعبد الشيطان..
فالشيطان يملك الآن أمرين: (1) أن ينقل مرض الكبر للإنسان. (2) أن يسحبه إلى طريق الغواية والهلاك بـ "حبل الهوى".. وبالكبر والهوى أضل الشيطان جموع غفيرة من البشر التي نكثت عهدها مع الله: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى  }  [طه : 123، 126]
وبالاستكبار عن سماع الحق، وباتباع الإنسان ما تهواه نفسه.. وبتزين كل ذلك من خلال إبليس، ينشأ الحقد، والحسد، والبغضاء.. تجاه الحق وأهله.. وتفسد "مستقبلات الإيمان"، وتطبع على القلب؛ فيعمى عن رؤية الصراط المستقيم، ويأخذه الشيطان في الضلال البعيد: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء : 60]
ولذا، بمجرد التواضع للحق، والتخلص من الهوى.. يصبح كيد الشيطان ضعيفا: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [النساء : 76]
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ" [المستدرك على الصحيحين/5742]
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ "، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ، يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ". [صحيح مسلم/134]
قال الله تعالى:{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص:83]

ومن "الكبر والهوى" كانت بداية كل الذنوب.. وكل أسباب هلكة الإنسان:
* ابني آدم
ها هو القرآن يحكي قصة ابني آدم: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27]
قربا ابني آدم قرباناً لله - تعالى - فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر.
فهل عزم الآخر ( الذي لم يُتقبل منه ) على:
-             مراجعة نيته وسريرته نحو ربه؟
-            مراجعة القربان أيكون فيه نقص أو عيب؟
-            تصحيح نيته وعمله وأن يتحرى الإخلاص والصواب؟
-            تنقية قلبه من كل حقد أو حسد أو غل يمنع قبول العمل؟
-            معالجة أمراض نفسه، ويفتش بكل دقة وصبر عن العيب؟
كلا.. لم يعزم على شيء من ذلك، بل عزم على "الانتقام" ممن أظهر عيوب نفسه، عزم على إلغاء وجود ذاك الذي أظهر نفسه وهو ناقصة معيبة، بينما هي ترى في نفسها الكامل والعصمة، وربما الشعور بالألوهية ! فلما رُفض قربانها غضبت وانفعلت وتولد الحقد والبغض والغل بدلاً عن الخشوع والتقوى والإنابة ! وراحت تمضي في "سُنة إبليس": الانتقام ممن أظهر عيوبها ونقصها. فقال لأخيه: لأقتلنك !
وأخيه حريص عليه ويخشى عليه من الهلاك، فأوضح له طريق القبول بجملة قصيرة هي منهج حياة: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة : 27]
ولكن النفس المجروحة المتكبرة العنيدة، التي تُصر على الذنب، وتُصر على تمجيد ذاتها، وتطهير ساحتها.. وهي الملوثة بأقبح الذنوب وهو "الكبر" لم تستمع إلى النصيحة، وكيف تستقبل المعرفة وهي هكذا متنفشة بالباطل ؟!
لقد كان الطريق لها مفتوحاً للعمل في مجال "التقوى" وتصحيح الخطأ والتفتيش في النفس، هل أصاب العمل شيء في الإخلاص أو في الصواب، كان يكفي المحاولة الثانية أو الثالثة أو الرابعة.. محاولة مستمرة حتى يتقبل الله العمل؛ والإصرار على تقديم قربان آخر لله سبحانه، ولحظة أن يرى الله صدق القلوب وطاهرتها، وحرصها على مرضاة الله، واتباع رضوانه؛ يتقبل الله - تعالى - العمل.. بل ويضاعفه أضعافاً مضاعفة؛ فهو: الجواد الكريم الحليم الرحيم الودود الغفور الرحيم.
ولكن.. لم تر النفس طريق التقوى، وثقل عليها أن تراجع نفسها.. وسَهُل عليها قتل أخيها !!
*  *  *
* ولد نوح
ينادي النبي الكريم، والأب الحنون ابنه: { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } [هود : 42]
ويمد النبي الكريم.. الأب الحنون يديه إلى ابنه وهو يغرق، فيأبى الابن ! ويبحث عن جبل! يعصمه من الماء ! هكذا تصور الابن !! { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود : 43]
تصور أن الذي سيعصمه جبل.. وأن الذي يحيط به ماء.. هذه هي موازينه الشعورية، موازين باطلة، لم تعرف من العاصم، ولم تدرك ما الماء.
أما القيم النفسية، فكان الكبر والعناد في أعلاها.. ولم يشفع لها مشهد الهلاك الحاصل، ورجاء النبي الواصل..
إن الإنسان لا يستطيع أن يدرك هذا المشهد، إلا عندما يتذكر مشهد الكبر الأول الذي أهلك الشيطان.. الكبر في مقام العبودية ! والعناد أمام قوة الحق !
غرق الابن بجسده، وقبلها غرقت نفسه.. عندما تعطلت أجهزة الاستقبال والتوجيه فيها.. فلم تستقبل أي شيء مهما كان ضخماً أو يحمل ومضات قوية، لم تدرك الهلاك.. وهو يحيط بها من كل جانب، ولم تعرف طريق النجاة.. والأيدي ممدودة إليها !.. لم تكن لتدرك، ولا تدرك ما هو أكبر من ذلك !
إنها تتعطل.. عندما يشعر الإنسان داخل نفسه أنه إله، عندما تتمدد نفسه عن حجمها الطبيعي، فتأخذ مسارات مهلكة، لا يستطيع السيطرة عليها.. تتعطل عندما يعبد الإنسان هواه.. وعندما يأتيها الحق وهي هكذا، تنفر منه.. تكفر به.. تنكره، وهي تصرخ في داخلها بأنه الحق !
وحين ( تظن ) عجزها عن تحقيق تكاليف ومقتضيات الحق؛ تُفضل أن تظل على الباطل، ولا تشعر بالعجز.. فتتكبر عن الحق، لأنه يقول لها: إنها باطل.. فتعلن عنادها وحربها.. هذه هي رحلة النفس التي تحمل الكبر مع الحق.. إنه مشهد متكرر في تاريخ الحياة البشرية.. وحاضرها.. ومستقبلها.
*  *  *
وبالتفتيش في أسباب "هلاك الإنسان" في قصة ابني آدم، وولد نوح.. وغيرهما من قصص الهلاك.. نجد أنه "الحقد والحسد والبغضاء" كان هو الصورة الحقيقية الخفية؛ ومن وراء ذلك "الاستكبار" و"اتباع الهوى" و"رد الحق.. واحتقار أهله"؛ ومن وراء ذلك "تزين الشيطان" للإنسان، بأن نفس الإنسان هي الأفضل، وهي الأعلى.. كما قالها بالضبط إبليس: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [الأعراف : 12] وتزينه كذلك سوء عمله وراءه فعلاً حسناً: { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [فاطر: 8]  { وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 43] والعاقبة معروفة، فإبليس استحق اللعن، والعذاب.. والإنسان إذا استجاب لعدوه هذا؛ أصابه نفس مصيره ! ما لم يرجع ويتوب.. و...
"يُفشي السلام": سلام النفس، وطهرها، وبراءتها من البغضاء والغل والحقد والحسد.. تجاه الآخرين، وإفشاء السلام في محيط الأسرة، وروابط الرحم والقربى، وإفشاء السلام في محيط المجتمع.. وتطهيره من كل مُسببات البغضاء والحقد والغل في النظم الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية، والفكرية، والسياسية...إلخ، وإفشاء السلام في العالم.. بتحطيم قوى الطاغوت التي تعبد الشيطان؛ وتضل الناس على سعادة الدنيا والآخرة.. فهكذا ينشأ الحب، وتغشى الرحمة البشرية، ويعود للإنسان الطمأنينة والرضى.. فـ "أفشوا السلام بينكم". 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شبهات حول فكر قطب

الجيا والدولة

تكفير المتوقف في التكفير