التفكير وتميز الإنسان

ما هي طريقة التفكير الصحيحة ؟!
هذا السؤال لا يطرح نفسه غالباً، لأن طريقة التفكير.. تحدث بشكل تلقائي لدى الإنسان، ويظن ـ حبًا لذاته ـ أن طريقة تفكيره صحيحة، وقد يعتبر مثل هذه الأسئلة نوعاً من الفلسفة الجدلية، واللجاج اللغوي.. وقد تكون كذلك في بعض الأحيان.. حينما يكون الحديث في الأشياء التي تستقل بمعرفتها الفطر السوية.

وأسأل الله سبحانه أن نخرج من نطاق الفضاء الفلسفي إلى فضاء الحياة اللاحب..
ليس الفكر الصحيح، هو أن يعرف الإنسان فكرة صحيحة وحيدة مجردة أو حتى يعرف طريقة صحيحة لتطبيقها.
إنما الفكر الصحيح: هو "مجموع" الأفكار الصحيحة التي تنتظم في بنية سوية فعالة مترابطة، متصلة بالسماء.. ثم تخرج إلى الحياة.
إذًا، تتكون آلية التفكير الصحيح من:
1- مجموع الأفكار الصحيحة: التي تأتي من العلم والمعرفة، الشاملة العلم النظري، والخبرة الحياتية.. والعلم والمعرفة لا يستطيع أن يقوم وحده بالوصول إلى الأفكار الصحيحة، فلا بد لهذه الأفكار أن تكون موصولة بالسماء.. أي تكون: ربانية، سننية، شرعية.
2- الفكرة العملية الصحيحة: هي الفكرة التي أثبتت صحتها في حياة نقية نظيفة.
3- التنظيم: وهو علاج العشوائية المعرفية، التي تصيب الإنسان عندما يفتح عقله وقلبه لكل ما يرد إليه، فيجتمع لديه ثقافات متضاربة، ومعلومات عشوائية مُشتتة.. تضر أكثر مما تنفع، حتى وإن كان منها الصحيح المفيد، لأن العشوائية تُفقد الإنسان الحيوية الفاعلة.. فالإرادة الإنسانية السوية إنما تخرج في حالة البناء الفكري المتماسك المتجانس.
4- البنية السوية الفاعلة: وهي البنية الفكرية المتحررة من الأصار والأغلال الباطلة التي يفرضها المجتمع الذي وجد الإنسان نفسه فيه.
5- مترابطة: والترابط بين الأفكار فن كبير.. قائم على التفكير الشمولي، والقدرة التحليلية على الخروج بتصور صحيح متكامل، من خلال الربط المتماسك بين مجموع المعلومات التي يحتويها العقل، ويحسها القلب.
6- المتصلة بالسماء: وهي الطريقة الربانية في آلية التفكير، التي تعتمد في الأساس على طريقة الأخذ بالأسباب، والاستسلام لمُسبب الأسباب سبحانه، والطريقة السننية (القانونية) الإلهية في فهم الحياة بتوازن صحيح. مع الإيمان بقضاء الله وقدره، والتعامل مع هذا القدر.. بكل فاعلية وحركة، والاستسلام لحكم الله سبحانه بعد أن يقع... ـ فسبحانه له في كل قضاء حكمة، وفي كل حُكم رحمة ـ ثم الحركة الإيجابية مرة ثانية، لتغيير ـ كما أمر الله ـ ما يمكن تغييره بما يسببه الله - سبحانه - من أسباب على الإنسان الجهاد من أجل تحقيقها.
7- الحياة: وهي المرحلة النهائية، والغاية المطلوبة من آلية التفكير الصحيحة، وعدم خروج الفكر الصحيح إلى الحياة من شأنه أن يموت داخل الإنسان، ويتعفن ويتحول إلى نقمة عليه، ويُفقده الإرادة والفاعلية والحركة.. ويُحوله إلى آلة تطحن وتقتل كل فكرة صحيحة، والقتل هو عدم تطبيق الأفكار في الحياة أو عدم احتضانها داخل مجتمع سوي.  
*   *   *
التفكير والمجتمع:
يفرض المجتمع ثقافات وأفكار مُسبقة على عقل الإنسان، ويُخرج له مُسلّمات وموازين وقيم، يجدها قائمة حاضرة له، ويفرض بشكل تلقائي نفسه على العقل.. حتى إنه في كثير من الأحيان يستسلم له، ويتعامل معها على أنه شيئ على العقل عدم نقده أو تحليله.. فيكون المطلوب هو استهلاك العقل في عملية التكيف مع هذا المجتمع.
والمجتمع ومكوناته: إنما هو في الأساس المحضن الإنساني للأفكار عمومًا.. ويوفر الغذاء لقيام ما يحتويه من أفكار، لذا فإذا كان الكيان الاجتماعي يحوي أفكارًا صحيحة ـ على الطريقة السابق شرحها ـ فذلك يُمهد الطريق ليغرس الإنسان غرسه وجهده فيه، فينمو في تلك الأرض الخصبة، وتأتي الثمار من كل مكان، وإذا كانت الكيان الاجتماعي يحوي أفكارًا جاهلية لا ربانية، فإنه لا يثمر إلا الظلم والعشوائية والتشتت والتمزق، وأي غرس فيه يتحول إلى شقاء، واختلال، وعدم القدرة على تقييم الفكر والحياة، أو إبصار الصراط المستقيم.
وإذا كان الكيان الاجتماعي يحوي أفكارًا خاطئة سواء من الناحية الروحية أو المادية، فإنه تكون وبالًا على الإنسان.. وشقاءً له، ومصدر تعاسة وموت.. لأن وجود الإنسان ـ حتى وإن كان يرغب في الحياة الربانية ـ في المجتمع.. تجعله يستقبل بشكل تلقائي موجات من القيم والموازين والمشاعر الباطلة.. ويغرسه فيه.
وعندما لا ينتبه الإنسان إلى هذا الأمر، فإنه يصنع تعاسته بيده وبطريقته في النظر والتفكير، ويصبح أسيراً لأوهام! وحتى يتحرر الإنسان من سجن المجتمع.. فإن أولى أوليات التفكير هي "التحرر" من النمط المفروض الذي يجده الإنسان، ويُعيد النظر بكل حرية وموضوعية في كل مكونات الوضع القائم، وما وجده من خير وحق قََبِله، وما وجده من جاهلية وخطأ وشر وتخلف وأغلال.. تحرر منه، وأسقطه من موازينه وقيمه واعتبارته. وهذا التحرر ـ بهذه الصورة ـ هو نواة التغيير الإيجابي.
*   *   *
التفكير والبعد النفسي:
ليست هناك صورة ثابتة مُقولبة للتفكير، وإنما هو ملتصق بالبعد النفسي للإنسان، وهذا هو الذي يعطي التميز والتنوع البشري.. والتصاق التفكير بالبعد النفسي، يجعل شكل التفكير مرتبط بالنفس البشرية، وكلاهما مؤثر في الآخر. فمثلُا: قد يحدث للإنسان مصيبة أو كارثة.. فمن الممكن أن تُقعده عن المضي في الحياة أو تغُير موازينه، ومن الممكن أن تُحرره أكثر، وتُفجر طاقاته.. ويرجع ذلك إلى التركيبة النفسية من جانب، والتركيبة الثقافية من الجانب الآخر، والبيئة الاجتماعية كبعد ثالث، ورابعاً: وقبل كل شيء "النية" وإطلاع الله على ما في القلوب.. فيهدي من يستحق الهداية، ويُضل من حقت عليه الضلالة.
والنظر إلى البعد النفسي، والخصائص الإنسانية الخاصة بكل إنسان.. وتحليل هذا البعد، يُحدد طرق التفكير الصحيح، ويُخرج التنوع المطلوب للحياة، ويفسح للنفس قَبول النفوس الأخرى، فيكون الفكر الصحيح هو الذي يُميز الإنسان، وهو من تكريم الله سبحانه لهذا المخلوق.
كما أن النفس تميل إلى "العجالة" وإلى "رؤية" النتائج أمامها.. وعندما يحاصر الفكر "العجالة والرؤية المادية" ينحرف الفكر عن مساره، لأن هناك بعداً غيبياً على الإنسان اعتباره، والإيمان به.. وهنا يحضر معنى الإيمان بالله، واتباع سننه التي تُسير الكون والحياة والإنسان، وإن التفكير والحكم على الأشياء لا يخضع للتعجل في رؤية النتائج.. إذ أن النتائج اللحظية ورؤية العين ليست هي "الحكم النهائي" وليست هي "كل" الحقيقة.. بل ربما تكون ظواهر خادعة..
وإن رؤية أصحاب الأخدود - والنار تشوى لحوم وجلود المؤمنين - تُمثل في نظر من يرد العجلة ورؤية النتائج اللحظية.. تمثل انتصاراً وصحة مسك "أصحاب الأخدود" فهم يملكون - فيما يبدو - القوة المادية، ولكن عندما يأتي الإيمان ليصحح ما توهمته العين، وما تضخم في حس النفس أن الأمر كان مجرد اختباراً، انتصر فيه أهل الإيمان، وخسر فيه أصحاب الأخدود..
ولقد كان كذلك قارون - في النظرة السطحية - ذو حظ عظيم، وتمنى أهل الحياة الدنيا مثله، ثم تكشفت الحقائق.. أنه - رغم الكنوز التي تنوء بحمل مفاتحها العصبة - كان فقيراً محروماً، ثم حل به الخسف، ولم يتبق له من شيء !
*   *   *
مكونات التفكير:
كل الأفكار الصحيحة، قائمة على هذه الغاية الكبرى وهي: تحقيق الحق والعدل الرباني.. الذي يحقق للإنسان الرضا والسعادة، ويجعله محققًا لذاته، محبًا للحياة، ساعياً ومجاهداً فيها، ويتكون التفكير الصحيح من مكونات روحية، وأخرى مادية، واختلال أحدهما يفسد التفكير، ومن ثم يفسد الحياة.
المكونات الروحية: هي الإيمان والرضى بالله، والعلم والثقافة والمعروفة التي يحتويها العقل، والشعور والإحساس والإرادة التي ينبض بها القلب، والرضا والاستسلام والنية الطاهرة التي تحملها الروح إلى بارئها.
المكونات المادية: وهي الثروة المادية بكل أنواعها..كطاقات بشرية، وثروات الأرض، ومحاضن اجتماعية. وبغير المكونات الروحية.. تتحول هذه المكونات المادية إلى شر وجحيم على البشرية.
وبين المكونات الروحية والمادية.. علم و"طريقة تفكير" في القدرة على الربط والتنظيم والتفاعل والمزج بينهما وجعلها شيئًا واحدًا يسمى الحضارة، وهذا ما يصنعه الفكر الإسلامي الذي يضبط إيقاع الحياة، ويسير بالبشرية إلى سعادة الدنيا، والفوز في الآخرة.
*   *   *
كُتب في 20 ربيع الأول 1429 - 28 مارس 2008

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شبهات حول فكر قطب

الجيا والدولة

تكفير المتوقف في التكفير