الحرب الفكرية
قبل الإجابة على هذا السؤال، نقول - باختصار - ما هو فكر الأستاذ سيد قطب ؟
نستطيع أن نلخص فكر الأستاذ سيد في ثلاثة محاور:
(1) إحياء الأمة، وردها إلى حقيقة الإسلام. (2) الجهاد في سبيل الله لإقامة دولة الإسلام يعلوها شرع الله. (3) علو شرع الله والتحاكم إليه هو: "قضية عقيدة"، ولقد أفرد لها جل اهتمامه، وتصدى للهجمة العلمانية على الشرع.
هذا هو الفكر بكل وضوح وبساطة.. يتلخص في دعوة الأمة إلى حمل رسالة الله - جل جلاله - واتباع صراطه المستقيم، "وجهاد" أعدائها الذين لا مفر من مواجهتهم، فهم في حالة دائمة من العداء، لا تهدأ إلا عند رفع أعلام الجهاد في سبيل الله، وإعداد كل قوة ترهب عدو الله وعدونا، وآخرين لا نعلمهم.. الله يعلمهم.
فكيف تم تفجير هذه الفكرة السهلة الواضحة.. وكيف تم العبث بهذا الطريق الذي يُمثل خلاص الأمة مما هي فيه ؟!
إن تفخيخ وتفجير أي فكرة - وإفسادها وتفتيتها - غالباً ما يتم عبر ثلاثة طرق:
(1) الغلو: وفيه يتم جذب الفكرة بشدة جهة التطرف والغلو والتنطع، حتى يتم إفساد مضمونها الأصلي، وتدمير "مركز الفكرة".
(2) التميع: وفيه يتم جذب الفكرة بشدة جهة التفلّت والتفسخ منها، وتأويلها تأويلات باطلة، أو التملص منها، حتى يتم إفساد مضمونها الأصلي، وتدمير "مركز الفكرة". وغرضها الرئيس.
(3) العبث بالمضمون: وفيه يتم الحفاظ على "العناوين والشارات والشعارات"، والتلاعب في مضمون الفكرة بطريقة احترافية، حتى يتغير المضمون تماماً، مع الادعاء بالدفاع عن الفكرة وشعاراتها، بل واتخاذ رموز الفكرة في الدعاية! رغم أنه تم تحريف المضمون تماماً !!.
في حالة فكر الأستاذ سيد - رحمه الله - تم استخدام الأسلوب الأول والثاني - الغلو والتميع - وفشل العدو في استخدم الأسلوب الثالث - العبث والتلاعب بالمضمون - لأن الله سبحانه وهب سيداً قلماً وروحاً وأدباً لا يستطيع من يريد الكذب عليه - والادعاء عليه بغير ما قال - أن ينجح، فلقد امتلك أسلوباً ساحراً لا يصل بالمعلومة التي يريد إيصالها إلى العقل فقط، بل وتتخلخل في حنايا القلوب ! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ولكنهم استخدموا طريقة خبيثة في الكذب سنعرج عليها إن شاء الله.
فكيف تم استخدام الغلو، والتميع في إفساد فكر الأستاذ سيد قطب؟
في حالة الغلو: تم تحوير فكرة إقامة الدولة المسلمة، وإحياء الأمة، إلى مسألة "تكفير" المجتمعات.. ولقد أثيرت هذه القضية في حياته - رحمه الله - وشعر بالأسى أن يكون هذا مستوى فهم من يحدثهم، أو من يُفترض لهم أن يكونوا رجال دولة. ورغم إيضاحه أن هذه لم تكن قضيته على الإطلاق، وإنما هدفه: الخروج بالأمة من هزيمتها، وإقامة دولة الإسلام، إلا أن سرطان "الغلو" الذي يسري في الذين في قلوبهم مرض، لم يقنعهم توضيح صاحب الفكر نفسه، فاتخذوا من كلامه - ر حمه الله - وسيلة لتكفير المجتمعات - لا سيما بعدما وجدوا زاداً في بعض كلام الفقهاء ! - وحولوا منهجه من "التحليل والتشخيص والعلاج إلى منهج "الإدانة والحكم"؛ فانشغل الناس بالحكم على الأفراد والمجتمعات بدلاً عن إقامة الدولة، وتحرير الأمة!.
في حالة التميع: تم جعل الإنتاج الفكري للأستاذ سيد - رحمه الله - مرحلة طارئة، ناتجة عن "التعذيب" وتحت تأثيره، الأمر الذي ينزع عنه "أصالته" وعمق ارتباطه بـ "التصور الإسلامي"، ولقد كان لـ "جماعة الإخوان" - بعد انحرافها الشديد في فترة السادات إلى وقتنا الحالي - دوراً بارزاً في تدمير وإفساد فكر الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فبدلاً عن "المعالم" كان "دعاة لا قضاة" وبدلاً من تحويل فكر الأستاذ إلى منهج للانطلاق - برؤية معاصرة وخبرة طويلة - تم الهرع إلى "كرسي البرلمان" ! لإطالة عمر الدولة القومية العلمانية ! وهاجم رموز الإخوان الدينية - وتوابعهم - فكر الأستاذ سيد، وتارة يتفاخرون به لجلب مزيد من الأتباع، وتارة يتبرؤون منه عندما يصدع صوت الحق بين حين وآخر.. وهذا هو "دين البرجماتية" المعروف !.
وهكذا تم خطف الفكرة جهة اليمن بأقصى قوة، وشدها جهة اليسار بأقصى قوة.. حتى يتم تفجير الفكرة وتفخيخها وإفسادها، وتركها ممزقة هنا وهناك.
أما الكذب والتلاعب والعبث بالمضمون - والذي تولى كبره السلفية الجامية - فقد كان كذباً منحطاً، والذي من شدة سفالته جعلت بعض الشباب يتجه للاطلاع بنفسه على فكر الأستاذ ليشاهد غير من صورته "سلفية الطواغيت" ولأِن ساهمت في تشويه وتشويش بعض فكر الأستاذ، إلا أنها لم تستطع تغيير المضمون بصورة كلية، نظراً لغزارة إنتاجه وتنوع موضوعاته وتماسكها.
ولكن أسوأ ما عبثت به هذه السلفية - وغبائها المعهود، وهوسها بإجراء الأحكام، وفقرها في التصور والفهم والرؤية، وعجزها عن تجاوز مرحلة الإدانة إلى مرحلة الحل الذي يتطلب علماً وفهماً هم أبعد ما يكونوا عنه - هو محاولة جر فكر الأستاذ من منهج "التحليل والتشخيص والعلاج" إلى منهج "الإدانة والحكم" حيث الساحة التي يسهل فيها اتهامه، والعبث بكل فكره !.
وهكذا وبعد تمزيق الفكرة بشدِها جهة اليمين وجهة اليسار، يتبقى شيء من فتاتها.. يتلقف هذا الفتات.. بعض الصغار لتكذب، فلا يتبق شيئاً سوى رحمة الله، ودفاعه عن الذين آمنوا، وليُسمع من علم في قلوبهم خيراً.
* * *
ولقد سبق الحديث عن فكر الأستاذ في غير مقال، وما قلته هنا هو فقط "مثال" لتوضيح كيف يتم تفجير الأفكار عموماً.. إذ أن العدو يعمد إلى هذه الطريقة، ويغذيها، أو تكون الأمراض فينا نحن.. وليس للعدو حاجة إلى أن يُمرضنا !.
فعلى كل صاحب فكر، وعلى كل من يحمل الفكرة، أن ينتبه إلى كيفية "بقاء" الفكرة حية سلمية مستقيمة.. وأن ينزع أي لغم يحاول تفجيرها من الداخل.
بل هناك محاولة أخرى شديدة في الخبث، وهي: بعد الهزائم المتكررة، والإعراض عن النصيحة، وبدأ انفضاض الشباب، يأتي من يَدعي أنه يريد "التغيير" و"الإصلاح" و"العودة" إلى المنهج الصحيح ! ولكن ذلك هو الآخر أحد "الأفخاخ" في طريق الشباب.. وهو "ادعاء التغيير" والمراجعات، والثورة الداخلية!! ليتم داخل الأطر التي يُسمح بها ! ويتم في النهاية تقويض حركة الشباب من أجل التصحيح !
إن العدو قد يجتمع علينا من كل حدب وصوب، ولا يجد منا إلا العزم والثبات والصمود.. ولكن محاولة واحدة لتفجيرنا من الداخل، وزرع ألغام فكرية واجتماعية كفيلة بالإضرار بنا بما لا يستطيعه العدو بكل قوته !.
وإن من يراجع تاريخيا الحديث - بل والواقع الآن - سيجد آثاراً لمحاولات تفجيرنا من الداخل، وإفساد كل فكرة صالحة.. ولقد أدرك العدو ذلك منذ أمد بعيد، وعرف قوة صمودنا أمام بطشه، ولكنه أدرك مفتاحاً لا يكلفه شيئاً مقارنة بالتكلفة العسكرية..
إنه مفتاح "إفساد الفكرة وتفخيخها وتفجيرها"، حتى عمد العدو - من خلال استخباراته ومراكز أبحاثه - إلى تربية جيل كامل من اليهود والصليبيين حفظه للقرآن والسنة! وهيئتهم هيئة الشيوخ الكبار، حتى أن المحاضن الاجتماعية التي يعيشون فيها لا بد وأن تكون إسلامية خالصة، حتى يتم غرس السمت الإسلامي بشكل قوي لا يتطرق إليه أدنى شك - كما حدث في بريطانيا - ثم الدفع بهم داخل المجتمعات الإسلامية، ليس لصرف المسلمين عن دينهم، أو تشكيكهم في عقيدتهم، ولكن لإفساد فكرهم، وإحباط أي محاولة للإحياء، وتفجير أي فكرة فيها السمو والاستعلاء بالإسلام، وإنجاح رسالته.
ومع تعميم هذه الطريقة، وبطرق مختلفة - لا نعلمها - سنجد أن "المعركة الفكرية" هي المعركة الخفية.. التي ننهزم فيها دون أن نشعر، ودون أي ضجيج، ونجد أنفسنا نبذل من التضحيات ما لا حصر له، ولا نظير.. ثم لا نجد إلا الهزيمة.
ذلك أنه كان هناك معركة خلفية، يُفسد ويعبث فيها العدو، ويعيث فيها كيفما شاء، ثم نجد أنفسنا في النهاية.. تضحيات بلا نصر، وعمل بلا فكر، وحركة بلا تخطيط !.
وقد يصل المكر بالعدو أن يترك لنا مساحة من النصر العسكري في ساحة ما، حتى يتسنى له إفساد الفكر في غفلة منا، ويترك القادة لفتنة "المال والسلطان" لتتفخخ الساحة الداخلية.. ويعمل على "تعليق" الأوضاع لا حسمها.. لخلق حالة من "الجمود والترهل" حتى تلقي النفس أسلحتها، وتشعر بالأمن !. ثم ينتظر اللحظة المناسبة لـ "تفجير الأفكار ونسفها" !
وإن للعدو مهارة تاريخية في هذه الحيل، وفي هذا المكر الذي تكاد من شدته تزول الجبال، وهنا تحضرنا معية الله - سبحانه وتعالى - وحسن التوكل عليه، وحساسية الموقف الذي نحن فيه، ويحضرنا أعمال القلوب، وإخلاصها لله وحده لا شريك له، ويحضرنا الوجل والخشية من ظلم النفس أو الآخرين، ذلك إننا على تَخوف مما يُكاد لهذه الأمة، ولا عاصم من هذا الكيد إلا رحمة الله، ولا تحق رحمته إلا على من أخلص قلبه لله، وطهر نفسه من أمراضها، واتبع سنن الله التي لا تحابي أحداً.. وسلك صراط الله المستقيم.
وصدق وعد الله بالنصر لعباده المؤمنين.
* * *
موضوعات ذات صلة:
* * *
تعليقات
إرسال تعليق