أحكام الهجرة والديار

أحكام الهجرة والديار كما جاءت في نُقولات الفقهاء
وقبل الخوض في أحكامها.. أهيب بكل النساء على مواقع التواصل الاجتماعي عدم الثقة في أي أحد يدعوهن إلى الهجرة ويرتبها لهن.. كائناً من كان، ولا تتجرأ امرأة على مثل هذه الأمور دون إذن وليها، ولا تتحدث - على مواقع التواصل - مع أي أحد في هذا الموضوع إطلاقاً، وهذا هو "أصل" الموضوع الذي دفعني للكتابة.. بعدما وقعت بعض الفتيات في حبائل هذا الأمر، ووقعن في المحذور ! وليس الذي دفعني هو الحديث عن "أحكام الهجرة والديار". ولما نشرت الموضوع.. خرج البعض عن "الغرض الرئيس منه" إلى الحديث في أحكام الهجرة والديار، وتفصيلاتها !

حتى اتهمني أخ فاضل.. بأنني تكلمت في مقالي: "هجرة النساء.. وأحكام الديار" و"أم سلمة.. وهجرة النساء" بغير دليل من الكتاب والسنة، وتكلمت بغير علم، وليّ أعناق النصوص وتحميلها ما لم يحتمل... إلخ ! وأنني خالفت الإجماع في "وجوب الهجرة من دار الكفر" والعجيب أنه لا إجماع على وجوب الهجرة، ولا إجماع على وصف دار الكفر!! كما سيأتي في النقولات إن شاء الله.
وسأنقل - إن شاء الله - في هذا المقال أقوال الفقهاء في الهجرة والديار، دون التعليق عليها، وأترك للقارئ حرية التفكر والتأمل فيها. وأُتبعها بمقال منفصل - إن شاء الله - بعنوان: "أحكام الديار.. وقيام الدول".
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
*   *   *
أحكام الهجرة:
"الهجرة بعد فتح مكة :
اختلف الفقهاء في الحكم التكليفي للهجرة بعد الفتح على أقوال :
القول الأول : ذهب الشافعية والحنابلة إلى التفصيل فقالوا : إن كان المسلم قادرا على إظهار دينه في دار الكفر ، ولم يخف الفتنة في الدين ، فالهجرة في حقه غير واجبة ، ولكنها مستحبة ؛ لئلا يكثر سواد الكفار ، وليتخلص من مخالطتهم ورؤية المنكر بينهم ، وليتمكن من جهادهم ، ولأنه لا يؤمن أن يميل إليهم أو يكيدوا له ، وليكثر المسلمين ويعينهم بهجرته إليهم. أما عدم وجوبها عليه فلإمكانه إقامة واجب دينه بدون الهجرة. قال الإمام الشافعي : دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم ؛ منهم العباس بن عبد المطلب وغيره ، رضي الله عنه ؛ إذ لم يخافوا الفتنة . وحملوا حديث البراءة من كل مسلم يقيم مع المشركين على من لا يأمن على دينه في دارهم.
غير أن الشافعية استثنوا من عموم قولهم بالاستحباب في هذه الحالة ثلاث صور :
الأولى : أن المسلم لو رجا ظهور الإسلام بمقامه في دار الكفر كان مقامه فيها أفضل .
والثانية : أنه إن قدر على الامتناع في دار الكفر والاعتزال ، ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة، وجب عليه المقام في دار الكفر ؛ لأن موضعه فيها دار إسلام ، فلو هاجر لصار دار الحرب ، ويحرم ذلك .
والثالثة : أنه إن قدر على قتال الكفار أو دعائهم إلى الإسلام ، لزمه ذلك ، وإلا فلا.
وأما إذا كان المسلم عاجزا عن إظهار دينه في دار الكفر ، فيحرم عليه الإقامة فيها ، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام إن استطاعها ، فإن لم يقدر على الهجرة فهو معذور إلى أن يقدر.
[الموسوعة الفقهية: المبدع لابن مفلح 3 / 314 ، والمغني لابن قدامة 8 / 456 ط الرياض . روضة الطالبين 10 / 282 ، والمهذب 2 / 228 ، وشرح منتهى الإرادات 2 / 94 ، وكشاف القناع 3 / 38 ، والمبدع 3 / 314 ، والمحرر 2 / 170 ، والهداية لأبي الخطاب 1 / 112 ، ومجموع فتاوى ابن تيمية 28 / 240 ، ونهاية المحتاج 8 / 77 وما بعدها ، وأسنى المطالب 4 / 204 ].
وذكر الشافعية والحنابلة حالة أخرى لهجرة لا توصف بوجوب ولا استحباب ، كمن عجز عن الهجرة إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم ، فهذا لا هجرة عليه لقول الله تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } .
وقد بَوّب العلاّمة البيهقي في كتابه "السنن الكبرى" باب ( بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِقَامَةِ بِدَارِ الشِّرْكِ لِمَنْ لَا يَخَافُ الْفِتْنَةَ ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِقَوْمٍ بِمَكَّةَ أَنْ يُقِيمُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَغَيْرُهُ إِذْ لَمْ يَخَافُوا الْفِتْنَةَ.
وذكر فيها ما يقرب من سبعة عشر حديثاً في هذا الباب. من رقم (17762 إلى 17779 ) ج9، ص 25 طبعة دار الكتب العلمية.
*   *   *
الهجرة من دار الحرب :
"قسم الفقهاء الناس في شأن الهجرة من دار الحرب إلى ثلاثة أضرب :
أ - من تجب عليه الهجرة ، وهو من يقدر عليها ، ولا يمكنه إظهار دينه مع المقام في دار الحرب ، وإن كانت أنثى لا تجد محرما ، إن كانت تأمن على نفسها في الطريق ، أو كان خوف الطريق أقل من خوف المقام في دار الحرب . لقوله تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا }.
وفي الآية وعيد شديد ، والوعيد الشديد لا يكون إلا في ارتكاب المحرم وترك الواجب .
ولحديث : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى ناراهما "  وحديث : " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل " أما حديث : "لا هجرة بعد الفتح " فمعناه لا هجرة من مكة بعد فتحها ، لصيرورة مكة دار إسلام إلى يوم القيامة إن شاء الله .
ب - من لا هجرة عليه : وهو من يعجز عنها ، إما لمرض ، أو إكراه على الإقامة في دار الكفر ، أو ضعف كالنساء ، والولدان . لقوله تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا }.
ج - من تستحب له الهجرة ، ولا تجب عليه ، وهو : من يقدر على الهجرة ويتمكن من إظهار دينه في دار الحرب ، فهذا يستحب له الهجرة ليتمكن من الجهاد ، وتكثير المسلمين.
د - وزاد الشافعية قسما رابعا : وهو من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب ، ويقدر على الاعتزال في مكان خاص ، والامتناع من الكفار ، فهذا تحرم عليه الهجرة ، لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه ، فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار ، وهو أمر لا يجوز ، لأن كل محل قدر أهله على الامتناع من الكفار صار دار إسلام.
وقال الحنفية : لا تجب الهجرة من دار الحرب لخبر : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ". أما حديث : " ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين" . فمنسوخ بحديث : " لا هجرة بعد الفتح" . [الموسوعة الفقهية: نهاية المحتاج 8 / 82 ، كشاف القناع 3 / 43 ، أسنى المطالب 4 / 204 ، المغني 8 / 456 ، عمدة القاري 1 / 35 ، الإنصاف 4 / 121 ، فتح العلي المالك 1 / 313 ].
***
هجرة المرأة من دار الكفر :
"ذهب المالكية والشافعية والحنابلة - تفريعا على قولهم بوجوب الهجرة في حق من قدر عليها إذا لم يستطع إظهار دينه في دار الكفر - إلى وجوبها على المرأة من غير اعتبار شروط السفر في حقها على النحو التالي.
قال المالكية : لو أسلمت المرأة بدار الحرب فإنها تخرج منها مع رفقة مأمونة ، فإن لم تجدها وكان يحصل بكل من بقائها وخروجها ضرر فإن خف أحدهما ارتكبته ، وإن تساويا خيرت.
وقال الشافعية : تجب الهجرة على من لم يستطع إظهار دينه وخاف فتنة فيه ، إن أطاقها ، ويعد عاصيا بإقامته ، ولو أنثى لم تجد محرما مع أمنها على نفسها ، أو كان خوف الطريق أقل من خوف الإقامة ، واستثنى الشافعية من قولهم بوجوب الهجرة على القادر عليها ممن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر : من في إقامته مصلحة للمسلمين فتجوز له الإقامة فيها . قال الرملي : بل ترجح على الهجرة، أخذا مما جاء أن العباس رضي الله عنه أسلم قبل بدر ، واستمر مخفيا إسلامه إلى فتح مكة ، يكتب بأخبارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يحب القدوم عليه فيكتب له أن مقامك بمكة خير.
وقال الحنابلة : إذا وجبت الهجرة لعدم القدرة على إظهار الدين وإطاقتها ، فلا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة ، ولو كانت في عدة بلا راحلة ولا محرم .
وفي عيون المسائل والرعايتين : إن أمنت على نفسها من الفتنة في دينها لم تهاجر إلا بمحرم كالحج . وزاد في الشرح وشرح الهداية للمجد : وإن لم تأمنهم فلها الخروج حتى وحدها.
أما الحنفية : فقد نصوا على أن المرأة إذا أسلمت في دار الحرب أو كانت مسلمة أسيرة - كان لها أن تهاجر إلى دار الإسلام بدون محرم ؛ لأنها لا تقصد سفرا ، وإنما تطلب الخلاص حتى لو وصلت إلى جيش المسلمين ، ولهم منعة لا يجوز لها أن تخرج من عندهم وتسافر".
[نهاية المحتاج 8 / 78 ، وكفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي 2 / 450 ، والزرقاني 2 / 237 ، والمبدع 3 / 314 . شرح الزرقاني 2 / 237 ].
"وَالْمُسْلِمُ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي دَارِ الْكُفْرِ لا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ ، حَرُمَ عَلَيْهِ الإِقَامَةُ هُنَاكَ ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الإِسْلامِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ ، فَهُوَ مَعْذُورٌ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ ، فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ ، سَقَطَ عَنْهُ الْهِجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ ، لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ ، أَوْ لأَنَّ لَهُ هُنَاكَ عَشِيرَةً يَحْمُونَهُ ، وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِي دِينِهِ ، لَمْ تَجِبِ الْهِجْرَةُ ، لَكِنْ تُسْتَحَبُّ ، لِئَلا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ ، أَوْ يَمِيلَ إِلَيْهِمْ ، أَوْ يَكِيدُوا لَهُ ، وَقِيلَ : تَجِبُ الْهِجْرَةُ ، حَكَاهُ الإِمَامُ ، وَالصَّحِيحُ الأَوَّلُ . قُلْتُ : قَالَ صَاحِبُ " الْحَاوِي " : فَإِنْ كَانَ يَرْجُو ظُهُورَ الإِسْلامِ هُنَاكَ بِمُقَامِهِ ، فَالأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ ، قَالَ : وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الامْتِنَاعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالاعْتِزَالِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ بِهَا ، لأَنَّ مَوْضِعَهُ دَارُ إِسْلامٍ ، فَلَوْ هَاجَرَ ، لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ ، فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الإِسْلامِ ، لَزِمَهُ ، وَإِلا فَلا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ." [روضة الطالبين للنووي 10 / 282 ط المكتب الإسلامي ]
"وَالْهِجْرَةِ : وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الإِسْلامِ . [...] والنَّاسُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَضْرُبٍ ; أَحَدُهَا ، مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا ، وَلا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ ، وَلا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ ، فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . وَلأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ ، وَمَا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . الثَّانِي ; مَنْ لا هِجْرَةَ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا ، إمَّا لِمَرَضٍ ، أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الإِقَامَةِ ، أَوْ ضَعْفٍ ; مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشِبْهِهِمْ ، فَهَذَا لا هِجْرَةَ عَلَيْهِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } . وَلا تُوصَفُ بِاسْتِحْبَابٍ ; لأَنَّهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا . وَالثَّالِثُ ، مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ ، وَلا تَجِبُ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا ، لَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ ، وَإِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ ، فَتُسْتَحَبُّ لَهُ ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَعُونَتِهِمْ ، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ ، وَمُخَالَطَتِهِمْ ، وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ . وَلا تَجِبُ عَلَيْهِ ; لإِمْكَانِ إقَامَةِ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ . وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلامِهِ . وَرَوَيْنَا { أَنَّ نُعَيْمَ النَّحَّامَ ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ ، جَاءَهُ قَوْمُهُ بَنُو عَدِيٍّ ، فَقَالُوا لَهُ : أَقِمْ عِنْدَنَا ، وَأَنْتَ عَلَى دِينِك ، وَنَحْنُ نَمْنَعُك مِمَّنْ يُرِيدُ أَذَاك ، وَاكْفِنَا مَا كُنْت تَكْفِينَا . وَكَانَ يَقُومُ بِيَتَامَى بَنِي عَدِيٍّ وَأَرَامِلِهِمْ ، فَتَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ مُدَّةً ، ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : قَوْمُك كَانُوا خَيْرًا لَك مِنْ قَوْمِي لِي ، قَوْمِي أَخْرَجُونِي ، وَأَرَادُوا قَتْلِي ، وَقَوْمُك حَفِظُوك وَمَنَعُوك . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : بَلْ قَوْمُك أَخْرَجُوك إلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَجِهَادِ عَدُوِّهِ وَقَوْمِي ثَبَّطُونِي عَنْ الْهِجْرَةِ ، وَطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ }. " [ المغني لابن قدامة 9 / 293 ط مكتبة القاهرة ]
*   *   *
أحكام الديار:
دار الإسلام:
هي : كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة.
وقال الشافعية : هي كل أرض تظهر فيها أحكام الإسلام - ويراد بظهور أحكام الإسلام : كل حكم من أحكامه غير نحو العبادات كتحريم الزنى والسرقة - أو يسكنها المسلمون وإن كان معهم فيها أهل ذمة ، أو فتحها المسلمون ، وأقروها بيد الكفار ، أو كانوا يسكنونها ، ثم أجلاهم الكفار عنها. [الموسوعة الفقهية: حاشية البجيرمي 4 / 220 ]
تحول دار الإسلام إلى دار كفر :
لا تَصِيرُ دَارُ الإِسْلامِ دَارَ حَرْبٍ إلا بِأُمُورٍ ثَلاثَةٍ : بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَبِاتِّصَالِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ، وَبِأَنْ لا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالأَمَانِ الأَوَّلِ عَلَى نَفْسِهِ،  وَدَارُ الْحَرْبِ تَصِيرُ دَارَ الإِسْلامِ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ أَهْلِ الإِسْلامِ فِيهَا كَجُمُعَةٍ وَعِيدٍ، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِدَارِ الإِسْلامِ. [ الدر المختار ]
واختلف الفقهاء في تحول دار الإسلام إلى دار للكفر .
فقال الشافعية : لا تصير دار الإسلام دار كفر بحال من الأحوال ، وإن استولى عليها الكفار ، وأجلوا المسلمين عنها ، وأظهروا فيها أحكامهم. لخبر : " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ".
وقال المالكية ، والحنابلة ، وصاحبا أبي حنيفة ( أبو يوسف ، ومحمد ) : تصير دار الإسلام دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها . وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا تصير دار كفر إلا بثلاث شرائط :
1 - ظهور أحكام الكفر فيها .
2 - أن تكون متاخمة لدار الكفر .
3 - أن لا يبقى فيها مسلم ، ولا ذمي آمنا بالأمان الأول ، وهو أمان المسلمين.[ الموسوعة الفقهية: نهاية المحتاج 8 / 82 ، وأسنى المطالب 4 / 204 .، بدائع الصنائع 7 / 130 ـ 131 ، وابن عابدين 3 / 253 ، وكشاف القناع 3 / 43 ، والإنصاف 4 / 121 ، والمدونة 2 / 22 ].
دار الحرب:
دار الحرب هي كل بقعة تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة . والأصل أن أموال أهل الحرب ودماءهم مباحة لا عصمة لهم في شيء من ذلك ، وللمسلمين الاستيلاء على أنفسهم وأموالهم بشتى الطرق ، لأنهم يستبيحون دماءنا وأموالنا ، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء ، ولكن ذكروا حالات تثبت لأنفسهم ولأموالهم العصمة وهم في دار الحرب ، منها :
إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بأسر ، وائتمنوه على نفس أو مال لم يحل له خيانتهم في شيء ، لأنهم أعطوه الأمان مشروطا بتركه خيانتهم ، وأمنه إياهم من نفسه ، وإن لم يكن ذلك في اللفظ ، فهو معلوم في المعنى ، فلم يحل له خيانتهم ، لأنه غدر ، ولا يصلح الغدر في الإسلام ، فإن سرق منهم شيئا أو غصب ، وجب رده إلى أربابه ، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان رده إليهم ، وإلا بعث به إليهم ، لأنه أخذه على وجه محرم فلزمه رده ، كما لو أخذ مال مسلم.
وقال الشافعية : هي كل مكان يسكنه غير المسلمين ، ولم يسبق فيه حكم إسلامي ، أو لم تظهر فيه قط أحكام الإسلام . [الموسوعة الفقهية: البدائع 7 / 133 ، والخرشي 2 / 116 ، والأم للشافعي 4 / 248 ـ 249 ، ومغني المحتاج 4 / 239، والمغني لابن قدامة 8 / 458 ].

*   *   *

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكفير المتوقف في التكفير

شبهات حول فكر قطب

الجيا والدولة