التدين المنحرف والكبت
ينشأ "التدين المنحرف" من صور التربية الخاطئة، التي تعتمد صورة نمطية من قوالب، تقوم على التعصب، والغلو، ونبذ المخالف.. وكبت الطاقات الإنسانية، ومن صور التربية التي لا تلتفت إلى "أمراض الاستبداد" التي يُنشأها طول القهر والطغيان، ومن التربية التي تغفل تزكية الإنسان، وتنشغل بحشو عقله، دون سمو روحه !
وعندما ينشأ المتدين وهو يرى الإنسان في صورتين لا ثالث لهما: (1) الطاهر المقدس (هو وجماعته وشيخه). (2) الدنس الحقير ( كل مخالف، وكل معترض، وناقد). فإن هذه الصورة الحادة العنيفة من الرؤية، تحجب عنه رؤية حقائق كبرى، وتحرمه من تجارب كثيرة في هذه الحياة.
ويرتبط التدين المنحرف بالهوس بالنساء.. نتيجة لاختلال في موجات - أو بنية - الطاقات الإنسانية.. فلا يكون في صورة من "التوازن" التي يهدف إليها الإسلام دوماً في كل شيء.
ولأن صورة التدين المنحرفة، تعمد إلى صورة جد مختزلة من "الشخصية الإسلامية الربانية، الشاملة والمتوازنة والإيجابية والفاعلة".. هذا الاختزال يحصر طاقات الإنسان كلها، ويبرز صورة واحدة هي صورة التدين وفق رؤية الشيخ، أو الحزب، أو الجماعة... إلخ.
وفي هذه الصورة من الانحراف.. يكون الإنسان متطرفاً في إبراز الصورة التي تربى عليها، والتي بها يشعر بـ "الانتماء" إلى الجماعة التي ينتسب إليها، ولكن تبقى باقي الطاقات المختزلة والمحصورة والحبيسة داخل النفس الإنسانية تثور كالبراكين، وتزلزل الإنسان في لحظة "ثورة الفطرة" !.
وفي صورة التدين المنحرفة.. ينشأ الإنسان على أن كل مخالف له هو إنسان ناقص.. جاهل، منحرف، ضال.. ينظر إليه بصورة فيها إساءة تقدير، وقلة احترام. وهذه الصورة من التدين لا تعتمد على "التفكر" بقدر ما تعتمد على إن ما نحن عليه هو "الحق المطلق"، وإن غيرها إما على بدعة أو ضلالة أو كفر. وبهذا ينغلق عمل العقل تماماً في البحث والنظر والتفكر والتأمل، وتبقى "الحمية النفسية" هي الرابطة التي تجمع بين المتدينين من هذا النوع.
وعندما تتحرك هذه الصورة من التدين في المجتمع، والذي غالباً ما يكون في حالة من التفسخ والاغتراب، وفقدان التواصل الاجتماعي الطبيعي؛ تمارس هذه الشخصية المنحرفة نوعاً من "الإرهاب" النفسي لمن حولها.. فإنها شديدة القسوة، عنيفة الخطاب، حادة الأسلوب، وعندما تتفاعل الناس مع هذه الشخصية، منهم من يشعر بالتقصير وجلد الذات، ومنهم من يشعر بالخوف والخضوع للأقوى، ومنهم من يشعر بالنفور والإعراض، ومنهم من يعلن الحرب... إلخ من صورة التفاعل الإنساني داخل المجتمعات المفككة، والفاقدة الهوية !
وبذلك تكون من معالم هذه الشخصية: اختزال الطاقات الإنسانية، وسجنها، والقسوة، وأحادية النظر، مما يؤدي إلى "الكبت" !
ولقد جعل علماء النفس تفسير الكبت هو "الكبت الجنسي" وجعلوا يلمزون الجماعات الإسلامية، والمجتمعات المتدينة بـ "الهوس الجنسي" وهو تفسير خاطئ لعل الغرض منه الطعن في كل ما يمت لـ "الدين" بصلة، وإلا ففي الصورة العلمانية التي يدعو إليها علماء النفس، ليس فيها هوس جنسي فحسب، بل فوضى وتطرف جنسي أقرب إلى عالم البهيمة !
إن الكبت المقصود هنا.. هو ليس الكبت الجنسي فحسب، إنما المقصود هو الكبت الروحي، والكبت الفكري، والكبت الاجتماعي، والكبت النفسي..
فالكبت الروحي: الذي يُحرم فيه الإنسان من لحظات السمو الروحي، والتربية الروحية الراقية.. التي تؤدب الإنسان، وتهذب انفعالاته، وترتقي به خلقاً وسلوكاً، والتي تصرف كل غايته ونيته نحو وجه الله الكريم. هذا الكبت يعتبر طاقة حبيسة معطلة.. تركها بلا تصريف وعمل، يؤدي إلى صور منحرفة من "التصوف" !.
الكبت الفكري: الذي يحرم الإنسان من التفكر، والتأمل، والبحث، وجعله يعيش أسيراً لأقوال الرجال، وتقديس أفعالهم.. مما يُغلق العقل تماماً، ويفقده الثقة في قدرته على إبصار الحق، ورؤية الحقيقة، والشك في كل خاطرة أو لحظة تأمل. وهذا الكبت طاقة حبيسة معطلة.. تركها بلا تصريف وعمل، يؤدي إلى "الإلحاد" ورفض "الدين" كله أو "الجمود والانغلاق" والتخلف عن خلافة الأرض.
الكبت الاجتماعي: الذي يحرم الإنسان من التواصل الإنساني مع غيره، والتفاعل مع المخالف، وفقدان المهارة في التواصل، والقدرة على التعبير عن مكنونات النفس، وتكوين شبكة العلاقات الاجتماعية السوية التي تتلاقى فيها النفوس والأرواح بصورة طبيعية غير متكلفة ولا مصطنعة ولا مزيفة. وهذا الكبت يعتبر طاقة حبيسة معطلة.. تركها بلا تصريف وعمل، يؤدي إلى "التعصب" و"النزعة الفردية" و"الاغتراب".
الكبت النفسي: الذي يحرم الإنسان.. السلام الداخلي، والمهارة في قيادة النفس في لحظات ضعفها، وقوتها، فورتها، وسكونها، والذي يحرم الإنسان من "التوازن" بين عدم جلد الذات وتحقيرها، وبين عدم تأليهها وتقديسها، وهذا الكبت طاقة حبيسة معطلة.. تركها بلا تصريف وعمل، يؤدي إلى "أمراض نفسية" متنوعة حسب الخريطة النفسية لكل إنسان.
الكبت الجنسي: الذي يحرم الإنسان من تصريف طاقته الجنسية بصورة فطرية طبيعية، ليس فيها تأنيب للضمير، ولا تعارض مع الدين، ولا لوم من المجتمع.. والطاقة الجنسية من الطاقات العنيفة التي قد تنفجر فجأة دون أن ينتبه لها الإنسان، وتبدو الحكمة من قوة هذه الطاقة لدفع الإنسان للسعي والتزاوج واستمرار الحياة على الأرض - والله سبحانه لطيف لما يشاء - والمجتمعات غالباً ما تفشل في إدارة هذه الطاقة، فإما الحرمان الذي يجعل دون الزواج صعاب وأهوال ورحلة عذاب، وإما الانحلال الذي يفتح كل قنوات الحرام، وغلق سبل التعفف الحلال، ومنع التعدد، وإباحة الحرية الجنسية !
وظن الغرب أن "الحرية الجنسية" هي علاج للكبت.. ولكن المدقق في ذلك يجد أن "الحرية الجنسية" أنتجت نوعاً آخر من الحرمان.. وهو الحرمان من الاستقرار والظمأ المستمر الذي لا يشبع، فكأن الإنسان كلما شرب من هذه الحرية كلما شعر بالظمأ !
وهذا الكبت طاقة حبيسة معطلة.. تركها بلا تصريف وعمل يؤدي إلى "الانحراف الجنسي" سواء بالحرمان أو بالانحلال.. ثم يتبعه "القسوة" القاتلة لعمل "الروح" إذ أن الطاقة الجنسية ليست هي مجرد لحظة متعة للجسد فحسب.. إنما لها مقصد روحي، يتأتى بعد تفريغ تلك الطاقة، وهي لحظة تحرير الإنسان من وطأة وثقل الطاقة الجنسية، بعدها "يُفترض" أن تنطلق الروح نحو السمو الإنساني المتمثل في الخير والرحمة وحب المساكين، وحب العطاء، والحنو على الضعفاء والأبناء...إلخ، وعندما يحدث الحرمان أو الانحلال، يُحرم الإنسان من لحظات المتعة الروحية.. التي ترتقي بإنسانيته، وكلها - في النهاية - طاقات إما أن تأخذ مجراها الفطري الطبيعي، وإما أن تظل حبيسة في داخل الإنسان، فتنفجر في داخله مُحدثة تشوهات وعاهات مؤقتة ومستديمة، تؤذي الحياة والإنسانية !
* * *
وعندما تغفل التربية الدينية.. هذه الصور المتنوعة من الطاقات، وتربي على أساس قاعدة من "التعصب والأحادية" وعبادة القوالب، والنمطية.. تخرج صورة مختلفة من الانحراف.
صور التدين المنحرفة تُصور للمتدين أنه وحده - وجماعته - هم الصورة الصحيحة الوحيدة، وعليه فإنه ينظر إلى نفسه نظرة تقديس، بل ربما يحسب أن الله - جل جلاله - لن يرحم أحداً غيره ! وينظر إلى المجتمع - وغيره - نظرة احتقار، والمشكلة هنا ليست في هذه الصورة المنحرفة من تقدير الأمور، المشكلة أيضاً أنها جعلت المتدين في "صورة نموذجية" لا بد وأن يكون نموذجياً في كل شيء، ليس بإنسان طبيعي يمارس الحياة بصورة طبيعية، إنما أخذ لقب "متدين" وأصبح له هالة ولقب وهيئة عند الناس، ويجب أن تظل هذه الهالة من القدسية، ومن المسافة بينه وبين الناس !، إنه لا يخطئ ! وبالتالي فالاعتذار عن الخطأ والتراجع عن الرأي مسألة أثقل من حمل الجبال، ويغلب على الخطاب الذي يحمله الكِبر والتنطع وسوء الأدب عند المخالفة، والتأييد المطلق، والدفاع المستميت، والتبرير عند الموافقة !!
إذن.. أصبح الآن هذا المتدين أمام: طاقات مكبوتة حبيسة - السابق شرحها - ، وبين صورة "تدين" اجتماعية اتخذها لنفسه، وأحاطت نفسها بهالة من القدسية. ومن الحيل النفسية في الهرب من تقديس الذات هي: تقديس الاخر المتطابق نفسياً - القالب النفسي - فيُقدس الآخر في صورة نفسه !!
هذا التباين بين داخل الإنسان، وخارجه.. لا بد وأن يُحدث تصادمات كثيرة، وقبل الوصول إلى مسألة "الهوس بالنساء".. أعرج على إضافة مأساة أخرى، وهي محاربة المد الإسلامي بصورة وحشية من خلال الاعتقالات والتعذيب لفترات طويلة، هذه المسألة من أعنف الصور التي تُحدث اختلالاً في طاقات الإنسان، وسلوكه.. والمشكلة الأخرى أنها لا تقع فقط على الشخص الذي وقع عليه التعذيب، بل إنها تقع على الآخرين الذي يعيشون هاجس الخوف من الاعتقال والتعذيب.. كل هذه العوامل تؤثر في بنية الإنسان الداخلية، وسلوكه، والعدو يتعمد التلاعب بها من خلال الدراسات النفسية التي تحطم الإنسان وتكونيه النفسي السوي، وسبحان الذي يعصم عباده المؤمنين من هذا المكر الشديد !.
وبالعودة إلى موضوع "الطاقات الحبيسة" وصورة التدين المنحرفة.. الحقيقة لا حل لطاقات الإنسان سوى تصريفها في الأعمال الصالحة التي جاء الإسلام يحث عليها. ولا يمكن كبت طاقات الإنسان لمدد طويلة.. والذي يحدث عند كبت الطاقات الإنسانية، أو اختزالها في صورة واحدة.. أن تُختزل شخصية الإنسان، ولكن إذا استطعنا كبت الطاقات المختلفة التي وهبها الله تعالى للإنسان، فإن هناك طاقة يعجز الإنسان عن كبتها، وتكون بمثابة "المُفجر" لجميع الطاقات الحبيسة، وهي "الطاقة الجنسية" فهي حادة مدببة، تهتك محاولة الكبت، وتفجر الطاقات حولها داخلياً.. ولكن خارجياً يريد المتدين الحفاظ على "صورة التدين" والقدسية التي يتخذها لنفسه، فيقع التصادم والتصارع؛ قد يؤدي إلى "الإلحاد" في أحيان ! أو "النفاق" أو "انفصام الشخصية" أو "التقلب من صورة لأخرى" فيكون أحد أعراض ذلك هو "الهوس بالنساء".. هذا الهوس ليس المقصد منه الرغبة في العلاقة الجنسية فحسب، بل فقدان السيطرة على "شهوة" الإنسان عموماً.. وقد يكون من هذا الهوس: "الهجوم" على النساء فكرياً أو اجتماعياً ! وقد يكون الرغبة في الحديث إليهن، وقد يكون التصنع والتكلّف لهن والظهور بمظهر البطل والفارس والعالِم، وقد يكون الرغبة في قهرهن وإذلالهن... إلخ !
الضحية في هذه الحالة من صور التدين المنحرفة هي المرأة، فهي سهلة الانخداع، والاستجابة لمن يخاطب عواطفها ! وعندما تفقد المرأة الصورة الصحيحة لتقييم الإنسان، ينخدع الجميع في "الهيئة الخارجية" الجميلة التي تُخفي خلفها تشوهات نفسية، لا تتكشف إلا بعد فوات الأوان !
وهناك صورة جديرة بالملاحظة - وإن لم تكن ظاهرة عامة - وهي في حالة الفشل في التواصل الاجتماعي مع المرأة - من خلال الصور الشرعية والطبيعية - وإن تعددت أسباب هذا الفشل من: الجهل بنفسية المرأة وطبيعتها، أو فقدان مهارات التواصل، أو الوضع الاجتماعي الضعيف في مجتمع يزن كل شيء بالمادة !، أو التجارب السابقة الفاشلة، أو الرواسب المتكلسة من صور انحراف، أو بقاء الانحراف كما هو تغطيه قشرة من التدين، أو تفسخ الأسرة وفقدان الحواضن العاطفية، أو الفراغ القاتل.. هذه الصورة بعضها أو كلها تدفع البعض إلى استغلال "مواقع التواصل الاجتماعي" للإيقاع بالمرأة من خلال "التخيل والإيحاء" ورسم صورة مزيفة عن شخصيته أو الشخصية التي كان يرجو أن يكون عليها !
ولأن "التواصل الإلكتروني" من خلف الشاشات ينصب في صميمه على التخيل، مما يُطلق للمرأة العنان أن ترسم الصورة التي تشاء من خلال الكلمات التي تقرأها أو تسمعها، مما يُحدث حالة من "الخيال المتبادل" وكل يرسم عالمه الحالم ! ولكن "الصدمة الواقعية" تكون محطمة لكل صورة جميلة رسمها الخيال، ولذا فشلت - في الأعم الأغلب - كافة صور التواصل الإلكتروني، وبقيت الصورة الشرعية الفطرية الطبيعية الواقعية الحية هي أسلم وأصح صور التواصل.
وإننا بحاجة إلى "المصارحة" و"المعالجة" لمثل هذه الحالات، وبحاجة إلى إعادة النظر في صور التربية المنحرفة، وبحاجة إلى تصالح الإنسان مع نفسه، وبحاجة إلى إعادة النظر في معنى ومفهوم التدين، وبحاجة إلى إصلاح الذات، قبل رسم هيئات خارجية لنخدع بها أنفسنا قبل الآخرين.
وإنني أستطيع أن أقول: إن من علامات التدين الصحيحة: أن لا يأكل الإنسان الخبز بدينه، ويكون على الحقيقة - لا التصنع - غاية في التواضع، والأدب، والرحمة، وحب الخير لكل إنسان، وأن يكون مقراً بذنبه، معترفاً بخطئه.. راجياً عفو ربه، فلا تقديس ولا جلد للذات، لا يغتر بطاعة، ولا ييأس من توبة، المتدين الذي يحب العطاء، ويبذل الخير، أحسن الناس أخلاقاً، وأطهرهم قلباً من الغل، والبغضاء، والحسد، والكِبر.. شديد الحساسية من أن يَظلم الناس، يحب الضعفاء والمساكين ويحنو عليهم، ذلك الإنسان الذي حَدّث عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يَألف ويُؤلف، الهين اللين القريب السهل، يَسلم الناس من لسانه ويده، يُزين عمله بالرفق، والتواصي بالمرحمة".
وإن كل إنسان منا يقع له مثل هذه الاضطرابات النفسية وكبت الطاقات - بصورة أو بأخرى - ولكن الصور الشديدة من ذلك، هي التي تُحدث أزمات خطيرة، وإن العلاج الناجع لذلك هو: ترقرق حب الله - جل جلاله - في القلوب، وإشراق الصدور بنور الله.. فيُعاد ترتيب ذرات الإنسان، وانتظام طاقاته، وانضباط توازنه، فيمضي إلى "حياة طيبة" في الدنيا والآخرة.
* * *
تعليقات
إرسال تعليق