طالب العلم وطالب الجهل
يَطلب المسلم العلم ليخرج به من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن العمى إلى البصيرة.. ولكي يصل إلى ذلك، عليه:
(1) أن يَقوم لله: لا للهوى، ولا للحزب، ولا للجماعة، ولا للشيخ، ولا للشهرة، ولا للعصبية، ولا للحمية.. يقوم خالصاً لله وحده لا شريك لله، شهادة تامة لله وحده لا شريك له، نية خالصة لله وحده لا شريك له.. يَقوم لله فلا يخشى لومة لائم.. فتكون "الشجاعة" في طلب العلم والحق.
(2) أن يَشهد بالقسط: يشهد بالقسط لا بـ "المحاباة" ولا بـ "الظلم" ولا بـ "الحيف" ولا بـ "العاطفة" يَشهد بالقسط التام.. الذي يَزن كل أمر بقدره، فلا يُطلق التعميمات، ولا يحكم بـ "الجملة" دون تفصيل.. شهادة بالقسط ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين.. شهادة بالقسط ولو لألد الأعداء، شهادة بالقسط تتلقى "العلم والمعرفة" بعقلية متجردة لـ "الحق" وحده، وطالبة "القسط والعدل" وحده.
(3) الوجل: وهو الخشية من الله - جل جلاله - عند طلب العلم، فيستشعر القلب "التواضع" لا "الكبر" ويُدرك العقل مساحة "الجهل" لا "العلم".. فلا يستطيل على أحد، ولا يَمن على أحد، ويُقدم ما لديه من العلم ليس في صورة "الحق المطلق" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل في صورة "متشوفة" إلى التطلع إلى كامل الصواب، وإلى "التسديد والتقريب"، وإلى "التألف والمحبة" وإلى "الاجتماع والوحدة" لا "التشتت والفرقة".
وبالقيام لله، والشهادة بالقسط، والوجل.. تتفتح آفاق المعرفة الربانية، ويُشرق بالأنوار الإلهية ظلام العقل، وتتسع الرؤية، ويُستقام الطريق، ويظهر الحق، وتجتمع عليه الكلمة. وطلب العلم بهذه الصورة ليس الغرض منه "حمل الأسفار" وكثرتها بلا غاية ولا هدف ولا قيمة عملية لـ "واقع الحياة" بل هو طلب العلم لـ "العمل" ولاستنقاذ الأمة، وحمل الرسالة.
ولهذا قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة : 8]
وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [النساء : 135]
فجعل القيام لله والشهادة بالقسط في حال بغض قوم.. وجعل القيام بالقسط والشهادة لله في حال حب قوم أو اتباع هوى. في كل الأحوال عدل خالص لا يؤثر فيه شيء، ولا يكون إلا بالقيام لله والشهادة بالقسط، والقيام بالقسط والشهادة لله.
* * *
وطالب الجهل:
فهو ذاك الذي يجمع من العلم ألوان شتى، ومعارف جمة، وهيئة مهيبة، ولكنه:
(1) يقوم لغير الله: إما لهوى وأحكام مُسبقة، فلا يزيده العلم إلا جهلاً، أو يقوم من أجل حزبه أو طائفته أو جماعته أو مصلحته.. تحكمه "الحمية والعصبية الجاهلية" فيؤدي ذلك إلى "الجُبن" في قول الحق، فيؤدي ذلك إلى..
(2) الشهادة بالظلم: ويُعمل طاقة العقل في "التبرير" و"الهجوم".. التبرير: لما هو عليه.. هو وجماعته وطائفته. والهجوم: على كل مخالف وإن كان الحق معه، فيعمى عن رؤية "الحقيقة" المجردة، ويقع في المحاباة لمن يحب، والحيف على من يكره.. فيؤدي ذلك إلى..
(3) الكِبر: والاعتداد بالذات.. أو تقديس النفس - بتقديس الشيخ أو الجماعة - فيُنزه نفسه من خلال الآخر ! فيؤدي ذلك إلى اعتقاد "الحق المطلق" ورمي الآخرين بالباطل.. الأمر الذي يُورث الغل والحسد والبغضاء الذي يحلق الدين. ويُورث كذلك التناقض في الحكم، وتبديله عند الحاجة، وعدم اطراده والتزامه !.
وهذا هو طالب الجهل.. مهما حصّل من العلم، وطالب الجهل يُحدث فتنة عظيمة، لأنه يظهر بمظهر العلماء الربانيين، ويهابه الناس لما يُظهره من العلم.. وطالب الجهل هذا ليس "أميناً" على دين الله أبداً.
وهذه الكلمة ليست هي موعظة لترقيق القلوب.. بل هي محاولة للكشف عن كارثة حركية كبرى، قد تكون خفية لدى البعض، أو ظاهرة.. لكن لا يعطيها أحد حجمها الحقيقي !
ولقد لمست ذلك بنفسي عندما وجدت "المحاباة" في الدين.. وتمرير كوارث شرعية وفقهية تحت هذه "المحاباة" والعجيب أن هذه "المحاباة" لم تكن من أجل مال أو منصب أو خشية طاغية وظالم.. ووجدت في حالات كثيرة السير مع "العقل الجمعي" ومألوف الواقع.. دون التوقف ولو قليلاً للتفكر والتأمل والسؤال، حتى صارت من "المُسلمات" التي لا تقبل النقاش، أو مجرد الاستفسار عنها يجعلك محل "شك واتهام".. ولقد تبدو "المحاباة" يسيرة في بداية الأمر.. أو تختلط بـ "حسن الظن" ثم نجد الانحراف الكلي فيما بعد، ثم تبرير كل قبيح، وافتراس كل محاولة تصحيح؛ فتنشأ العبودية لمُسلمات ما أنزل الله بها من سلطان، ويكون "التكاسل" عن البحث والتقصي لبيان الحق مجرداً عن كل هوى.
إنه لا يمكن المحاباة في الدين، لأنه شهادة بـ "الظلم" تدفع الآخرين إلى "محاباة" ما يشتهون.. وتُورث الأحقاد والتظالم، فهي شهادة ضد الدين ! شهادة تجعل الناس تزهد فيه ! أو تؤمن به ظاهراً، وفي الباطن يأكلها الشك والتساؤل !
والمحاباة قد تكون لـ "فكرة ومنهج" أو "شخص وجماعة" وقد تنشأ من الاعتقاد الساذج الجهول أن الشهادة بالقسط على فكرة أو شخص هو "انهدام لأركان الدين" ومن هذه الذريعة الواهية تُرتكب أشد المصائب والفواحش باسم "الحفاظ على الدين" فيضيع الحق، ويشيع الظلم، وينتشر الجهل باسم "العلم" !.
* * *
تعليقات
إرسال تعليق