كشف حساب

لأنني أؤمن أن من حق القارئ أن يعرف، وأن يفهم.. وأن تكون هناك شفافية كاملة واضحة لمن يقرأ لأي أحد، فهذا كشف حساب خلال الفترة التي كتبت فيها نصرة لـ "تنظيم الدولة".

المرحلة الأولى (التأييد): في أثناء ظهور وإعلان الدولة بالعراق والشام.. كان الإخوان المسلمون يكتبون أحد فصول التيه في عالم "البرجماتية السياسية" وكنا نبحث عن بريق أمل ينقذ ما تبقى من المشروع الإسلامي، بعد فشل الثورات في تحقيق أهدافها المرجوة، وكنت على المستوى الشخصي لا أنتمي لأي جماعة - ومازلت - بل نبحث عن الحق أينما كان وندور معه حيث دار، وننصر إخواننا المسلمين من أي فصيل كانوا إذا احتاجوا إلى نصرة أو مساعدة، وكنت - ومازلت - أرى في مدرسة سيد قطب الثورية طريق للتغيير لم ينهض بها أحد بعد كما ينبغي، ولم يُكمل أحد طريقه - في صورة مشروع متكامل - ولستُ قطبياً ولا سرورياً.. بل إن خلط فكر قطب بالفكر السلفي عطله وأفسده !
ظهرت الدولة.. وأعلنت عن وجودها، قلت في نفسي: لقد ظهر مشروع إسلامي جديد، لا يحل لك أن لا تنصره، بعيداً عن رد فعل من يُتابعك - في حينها - ورغم اختلافي الفكري والسياسي والفقهي - وقد ذكرت ذلك في المقالات الأولى لنصرة الدولة - قلت: ليس شرطاً للنصرة أن يكون هناك "تطابقاً كلياً" وبالفعل قررت نصرتها.. فكانت الكتابات الأولى منذ سنتين تقريباً وكنت متحمساً جداً لهذا المشروع، حتى ولو لم يكن على هوى مني، وأجبرت نفسي على النصرة اتباعاً للحق لا للهوى - كما كنت أظن - فجاءت المقالات: "الدولة الإسلامية.. عبقرية الفكرة"، وشرحت فيه ما آلت إليه الحركة الإسلامية والتحديات التي ستواجه الدولة، ثم اتبعته بعشرات المقالات. واجهت صعوبات بالغة في معرفة ما يجري.. ومن ثم الحكم عليه. وظهرت ردة فعل عنيفة من خصوم الدولة، ومن الإخوان، ومن غيرهم، وانزلقت في حماسة لرد هذه "الحرب النفسية" كانت - ولازالت - الأمور غاية في الصعوبة من حيث التحليل والنظر المتجرد، وكان التحالف الستيني على الدولة يستجلب تعاطف المسلمين وأنا منهم، فالدولة - في النهاية - تحتها ملايين المسلمين، لم يكن يعنيني الخلاف الأيديولوجي بين الجماعات الإسلامية، وانتصار كل فريق لنفسه، واتهام الآخر.
كنت أرى في الدولة أنها المشروع الأكمل والأجدر، وعلى الجميع الانضواء تحت رايتها.. ولم يكن غيرها يحمل مثل بريقها، فـ "جبهة النصرة" صاحبة اليد البيضاء في ثورة الشام تقف في مهب الريح، بين خطر الدولة التي نقضت بيعتها، وبين الجماعات الأخرى التي استسلمت للتمويل الأجنبي وشروطه وحدوده، هذا غير النظام العلوي النصيري الذي يتربص بالجميع. فالشرع والعقل والمنطق والإنسانية والتاريخ والجغرافيا تشير إلى ضرورة الوقوف يداً واحدة ضد العدوان الأمريكي والإيراني والنصيري، لكن جذور الخلاف كانت أعمق من ذلك بكثير - ومشكلاتنا الداخلية أكبر مما كنا نتصور - كنت في حالة انبهار بانتصارات الدولة، وتمنيت أن أكون معهم، وأموت تحت رايتهم.. كرغبة أي مسلم فطرية في نصرة الحق، والشهادة في سبيل الله. وما شهدت إلا بما علمت.
وأعترف أنني في هذه المرحلة حصل مني "تجاوزات عاطفية" في الرد على الخصوم.. بحكم سخونة الأحداث، فاللهم غفرة ورحمة. وأخذت هذه المرحلة الشهور الأولى من السنة الأولى من إعلان قيام الدولة.
***
المرحلة الثانية ( النقد التوجيهي ): كنا نقول إن الدولة ليست تنظيماً نتحول فيه إلى آلة لتبرير الأخطاء، والمشايعة بالحق والباطل.. فإذا وجدنا خللاً ذكرناه، وأن نقول الحق لا نخش في الله لومة لائم، ولم أعرف خطئاً أو حتى شبه خطأ إلا وذكرته.. ففرض الدولة النقاب على النساء، اعتبرته تعسفاً لا داعي له، طالما في الشرع ما يسمح بكشف الوجه، وكتبت في ذلك، وفي أداء المحاكم الإسلامية كتبت مقالاً عن: "المحكمة الإسلامية" وفي التكلف في مسألة نهاية التاريخ كتبت: "مشكلات في تناول الفقه الإسلامي" و"الخلافة والمهدي"، وفي التكفير.. كتبت: "الغلو في التكفير" "المسلمون والطواغيت" وفي مسألة الشورى.. كتبت: "خريطة تحكيم الشريعة، ومقاصد الشريعة" وفي الدعوة والرأفة بالناس.. كتبت: "فرق السرعات"، وفي نقد الإعلام كتبت: "الرسالة الإعلامية".. وكانت هذه - تقريباً - المرحلة الأولى من النقد التوجيهي فيما أرى.
والمرحلة الثانية من النقد ( مرحلة البراءة من الفعل ): وفي هذه المرحلة بدأت تتكشف لي خيوط سياسية معقدة حول تقسيم المنطقة، فخشيت أن تقع الدولة في مصير "إخوان من طاع الله" فكتبت: "الشرق الأوسط الجديد" وللقارئ أن يعرف أن هذا المقال على سبيل المثال جلست أكثر من عشر ساعات لكتابته، والبحث في الخرائط الجغرافية والعسكرية، وحذرت وأشفقت كمسلم غيور على دينه وأمته، وفي مرحلة دعوة النساء للهجرة وترك أهليهن.. وقفت وقفة حاسمة لقطع دابر هذه الفتنة فكتبت: "أحكام الهجرة والديار" "أم سلمة وهجرة النساء" و"أحكام الديار وقيام الدول" "هجرة النساء" وتم سبي وشتمي واتهامي بالصحونة من قِبل بعض أنصار الدولة بسبب هذه المقالات، والرفض القاطع لهذا التأصيل الذي يدعو إلى تكفير الأهل والديار. وفي مرحلة تفجير عسير.. كتبت: "الدولة الإسلامية وتفجير عسير" وبيّنت أوجه الاتفاق والاختلاف مع الدولة. وفي تفجير مساجد الشيعة.. أعلنت البراءة من ذلك، وأنكرت تفجير النفس في مصلى أو مكان عبادة، وبينت ذلك في مقال: "براءة وبيان" وبعدها خرج من كفرني واستحل دمي!.
ورغم ذلك.. كنت أرجو أن يستدرك العقلاء في الدولة انزلاقهم إلى هذه المرحلة من الفعل والفكر. وإنه بدلاً عن التفكير في كيفية قيام الدول، والتصنيع الحربي، وتأليف قلوب الأمة، والخطاب الإعلامي الهادئ والمتوازن، وكيفية تفكيك خطط العدو، وبناء الدولة.. وجدنا أنفسنا نخوض في قضايا "العذر بالجهل" و"تكفير العاذر" و"من لم يُكفر الكافر" وهذه طبيعة "التنظيمات الأيديولوجية" لا فكر "قيام الدول".
من خلال المواجهة الفكرية في رد أنصار الدولة على المقالات النقدية، وفي حجج الخصوم في بيان انحرافاتها.. انتبهت إلى طبيعة "الأصول المرجعية للدولة" ووجدتها على "السلفية النجدية" الخالصة، ووجدت الدولة تسير عليها حذو النعل بالنعل.. إذن من أراد أن ينتقد الدولة فلينقض الأصل المرجعي لها، وبالفعل ظللت انتقل إلى البحث في الأصول المرجعية للسلفية كلها، وخاصة السلفية النجدية، ووجدت أن هذا النقد يحتاج إلى سنين طويلة من البحث والاستقصاء، ووجدت بالفعل أن هذا الفكر السلفي لا بد وأن يُفضي إلى "نظام استبدادي" جديد كما حصل مع الدولة السعودية الأولى. وكتبت في ذلك: "إشكاليات السلفية". ولكن لماذا الناس تنتقد الدولة؟ ولا تنقد الأصل المرجعي لها؟ بل تزعم أنها تلتزمه وأنه المنهج القويم؟ هنا حصل التناقض واستبان الخلل.. وإن الدعوة السلفية الوهابية صخرة ليس الاصطدام بها أمراً سهلاً - إضافة إلى روافدها في القرن الثالث والسابع الهجري - بل هناك ملايين من المسلمين يتابعون على ذلك، فالأمر بحاجة لبيان تفصيلي، وبالفعل شرعت في ذلك حتى وصلت ساعات العمل الأسبوعية في بعض الفترات إلى أربعين ساعة من البحث والكتابة - ولم يُنشر منها شيئاً بعد - بحثاً عن الحق وحده، والحقيقة تكشف لي أمور كثيرة منها من هو حق، ومن ما هو محض باطل، ووجدت محاباة وشهادة زور على دين الله في مواطن كثيرة ! وشرعت في النهاية إلى الوقوف على الحياد تجاه الدولة داعياً الله لهم التوفيق والراشد. وما شهدت إلا بما علمت.
***
المرحلة الثالثة ( البراءة التامة ): وهي المرحلة الأخيرة التي ظن فيها البعض أنني انقلبت على الدولة بصورة مفاجئة، والتي - وللأسف الشديد - ينظر البعض إلى النصرة على أنها انتماء مطلق، وطاعة مطلقة.. على طريقة الألتراس في "العصبية الجاهلية": ( إنكار الخطأ ثم تبريره ثم الهجوم على الخصوم ) ولم أكن كذلك.. إنما رأيت - وفق ما علمت - أن مشروع الدولة هو الأكبر، وهو القادر على الصمود والمواجهة، وليس معنى ذلك التأييد المطلق، والطاعة العمياء !.
كانت هناك إشكالية كبيرة تجاه بعض قضايا التكفير.. فهناك فريق يقول الدولة بريئة من أي مظاهر للغلو، وتحاربه داخل الدولة، وهناك من يقسم أن منهج الدولة هو الغلو في التكفير. حتى ظهر على النشرات الرسمية للدولة تكفير الشيخ حازم أبو إسماعيل، وتكفير جماعة الإخوان كلها "قيادات وأفراد" واعتبرها "طائفة ردة" مع غيرها من بعض الفصائل على الساحة السورية، وتكفير الكثير من العلماء والشيوخ... إلخ، وهنا ظهرت حقيقة "المنهج الكاملة" فأعلنت البراءة التامة من الفعل والفاعل والمنهج.. الذي فيه تكفير ملايين المسلمين - وهذا يعني التكفير بالعموم وبالجملة - وهناك فرق كبير جداً بين البراءة من فعل خطأ - كما في المرحلة الثانية - والبراءة التامة من منهج اعتقادي وفكري يترتب عليه سفك الدماء المعصومة طاعة وقربة إلى الله! وليس في صراع مسلح يزعم أصحابه أن كل منهم على الحق.
ظن البعض أن المسألة تتعلق بشخص الشيخ حازم، وأنها حالة عاطفية.. وأنني أصبحت - كما قالوا - "الصبي المنتكس" الذي انقلب على الدولة بعد نصرتها لأنهم مسوا جناب الشيخ حازم، وهذا كله غير صحيح، لكن القضية كلها تتلخص في "موقف رسمي" من الدولة على نشرة رسمية تُكفر فيها ملايين من الأمة، ورموز من الحركة الإسلامية.. وطبقاً لما أراه حقاً، فهذا الأمر يستدعي البراءة التامة. وإعلان فشل مشروع الدولة من الناحية المنهجية لدي، ويعني بالنسبة لي حذف المقالات التي كنت أنُاصرها فيها رغم المجهود في الكتابة والنشر، ولا اهتم لرد الفعل، وثورة المتابعين عليّ، فلن يُغنوا من الحق شيئاً، ولن يُغنوا عني من الله شيئاً.. فهي كلمة - بإذن الله - من البداية لوجه الله، ابتغاء مرضاة الله، فحيثما ثَم وجه الله ورضاه نكون.
وفي كل المراحل لم أدعو - والعياذ بالله - لقتل المسلمين، لا بالتحريض ولا بالتصريح، بل قتال العدو الصليبي والرافضي المعتدي المحارب، وتحييد الأعداء، ووجود أرضية مشتركة مع الخصوم لا سيما في الشام. وما شهدت إلا بما علمت.
وقد وقعت الدولة في أخطاء كثيرة ذكرتها في مقال "تفجير عسير" وهي: [(1) أسلوبها الخطابي السطحي في مخاطبة الأمة. (2) التوسع في مناطات التكفير. (3) هوس الكثير من أتباعها بإطلاق أحكام الردة. (4) صناعة عداوات كان يمكن تجنبها، أو على الأقل تخفيف حدتها. (5) التمدد بصورة أشبه بعمل التنظيم لا ولايات دول حقيقية. (6) عدم مراعاة أفهام الناس، وفهم طريقتهم في التفكير والحياة. (7) عدم القدرة على استمالة قلوب الأمة بصورة علمية منهجية. (8) انحسار إعلامها في العمليات العسكرية. (9)  عدم قدراتها على اختراق التنظيمات السورية، وتوحيدها ولو سياسياً في بداية الأمر، ولو حتى شرائها بالمال.. لأنه اشتراها بالفعل غيرها. (10 ) تأخر تمكنها من فتح عاصمة واحدة، ويُفترض - فيما أرى - أنه كان يجب أن تتجه كل الجهود - وقبل أي تمدد - إلى فتح بغداد. (منشور بتاريخ: 6 / 8 /2015 م)]
وقلت في نفسي: لماذا دخلت هذا المعترك؟ ألم يكن من الأفضل ترك الجميع والالتفات إلى أعمالك وأسرتك.. بدلاً عن الوقوع في الخطأ والهجوم على شخصك؟!
ولكن كيف سنعرف الحقيقة؟ وكيف سنعرف الحق من الباطل؟ وكيف نتذوق مرارة الخطأ؟ وكيف نتدرب على التصحيح والتقويم؟ وكيف نُمير بين الأشياء.. إذ لم ندخل معترك التجربة، وننفعل بها، وتنفعل بنا؟ فلا بد من التفاعل مع الواقع مع الحذر من البغي والظلم على أحد.
***
أما الآن: وبعد أن أوشكت الحركة الإسلامية على الإفلاس - إن لم تكن أفلست بالفعل - وأقصد الإفلاس الفكري، والمشروع الحضاري.. بعد أن تحول إلى "عصبية جاهلية" و"فرق كل حزب بما لديهم فرحون" "وميراث وتركة يتم المحاباة فيه بالظلم والبغي" فإني عاكف منذ عام تقريباً على البحث في الأصول الفكرية والمرجعية لدينا، وقد قطعت شوطاً لا بأس به في بحث: "أمراض الاستبداد" - وأنا في الجزء الثالث الآن - وعسى أن يوفقني الله لوضع لبنة في فكر راشد قويم، يستفيد من أخطاء ما يقرب من مائة سنة من عمر الحركة الإسلامية، ويكون معالم في الطريق، ونحاول - بإذن الله - أن نُكمل ما بدأه العلاّمة المجتهد "سيد قطب" رحمه الله. فاللهم اهدنا سبيل الراشد.

***

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكفير المتوقف في التكفير

الجيا والدولة

شبهات حول فكر قطب