دعوة الرسل
كل رسول من عند الله - سبحانه - جاء بتوحيد الله وحده بلا شريك.. جاء ليواجه شرك قومه، سواء أكان هذا الشرك في الاعتقاد والتصور عن الله سبحانه، أو كان الشرك في العبادة والشعائر والنُسك، أو كان الشرك في الحكم والتشريع ومنهج الحياة. ومواجهة الفساد الذي وقع في الحياة جراء هذا الشِرك.. سواء أكان فساد أخلاقي أو اقتصادي أو سياسي...إلخ، ويُبين لقومه المنهج الصحيح والطريق القويم. رسالة سعادة وصلاح وخير وعدل ورحمة في الدنيا، ورسالة نجاة في الآخرة.
(1) { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } [هود: 50]
قاعدة انطلاق لأي مواجهة مع الشرك والباطل والفساد. فالدينونةللهوحدهقاعدةالعقيدةالأولى.وقاعدةالحياةالأولى.وقاعدةالشريعةالأولى.وقاعدة المعاملات الأولى.. القاعدةالتيلاتقومبغيرهاعقيدةولاعبادةولامعاملة. وكل من يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله، ووفق أمر غيره.. فهذا هو الشرك في حقيقته وأصله.
(2) بعد بيان قاعدة العبودية لله وحده، يواجه الرسول شرك القوم وفسادهم وبطالهم.
(3) يستنكر القوم تلك الدعوة، ويتساءلون في استنكار، ما علاقة العبادة أو الصلاة بالحديث عن الأموال والتجارة؟ ما علاقة العقيدة بالحرية الشخصية والأخلاق؟ ما علاقة العقيدة بنظام حياتنا الدينا؟... إلخ من المُبررات التي يثيرها القوم ضد دعوة الرسول.
(4) يرد الرسول عليهم الشبهات التي طروحها، ويؤكد على ارتباط العبودية لله.. بمنهج الحياة، وبالعبادات وبالمعاملات وبالأخلاق وبالسلوك.
(5) يأخذهم الرسول بالشدة تارة، وبالحلم تارة، ويدخل على قومه من كل طريق.. ولا يمل من دعوتهم، ويُبين لهم أن دعوته دعوة صلاح ضد الفساد، ودعوة خير ضد الشر، ودعوة بركة ونماء لا لعنة أو خراب.
(6) بعدها يُفاصل الرسول قومه على أساس العقيدة، لا على أي أساس آخر. ويرفع دعوته إلى الله أن قد بلّغ وآمن من آمن، وكفر من كفر. ثم تأتي سنة الله سبحانه في هلاك المكذبين ونجاة الرسول ومن آمن معه.
ثم حلّت "سنة الجهاد" مكان "سنة الإهلاك" منذ دعوة موسى عليه وعلى نبينا السلام، وهي ماضية إلى يوم الدين.
وبقي اليهود والصليبيون والمسلمون.. ونحن المسلمون في حالة صراع أبدي، وتحدي حضاري، ورسالي، ومنهجي، وجهاد إلى يوم الدين مع اليهود والصليبيين.. وهم - منذ أن سطع نور الإسلام على البشرية - في حرب مع الإسلام والمسلمين.. حرب لم تتوقف لحظة، قال تعالى فيها: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } [البقرة : 217]
حرب قتالية، حرب فتنة، حرب فكرية، حرب روحية، حرب تخريبية، حرب استعمارية !
بدأ عصرنا الحديث بسقوط الخلافة على يد الصليبيين ومكر اليهود، ودخلنا مرحلة "الملك الجبري، والطواغيت".. وكانت ملامح هذا العصر القائمة حتى الآن، والتي تشتد يوماً بعد يوم هي:
1- انهيار النظام السياسي "الخلافة" للمسلمين، وانهيار الوحدة السياسية الجامعة لهم.
2- الانسلاخ من رابطة الولاء على الإسلام، وأصبحت روابط قومية عرقية.
3- نبذ التحاكم إلى شرع الله، واستبداله بالقوانين الغربية الوضعية العلمانية.
4- تفتيت بلدان المسلمين بعد أن كانت دولتهم تحكم الأرض كلها عدا أوربا الغربية.. أصبحت دويلات رخوة هشة، لا تملك سلاحها، ولا غذاءها، ولا قوتها، وعارية من القوة الحقيقية أمام العدو العقدي الأول.
5- سرقة ثروات المسلمين، وجعلهم في حالة دائمة من الفقر والفاقة، والاحتياج الدائم للنظام الدولي المهمين على كل بلادنا.
6- ولاء الحكام والحكومات والأنظمة إلى اليهود والصليبيين، وإعاناتهم على المسلمين، وتمكينهم من بلاد المسلمين.. تمكنيهم من كل شيء حتى مناهج تعليم أطفال الروضة مروراً بسياسيات الحكومات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والفكرية والإعلامية.
7- وأد أي حركة أو تيار إسلامي يدعو بدعوة الرسل، وقتل أولياء الله.. والفتك بهم ومحاربتهم بكل وسيلة، في وحشية لم يسبق لها مثيل.
8- كشف عورات المسلمين، وإشاعة الفاحشة، والانحلال، والإباحية، والفساد.. والتجسس على المسلمين لصالح العدو الصهيوصليبي.
9- تفريغ بلاد المسلمين من كل الطاقات الفكرية والعلمية والتخصصية.. وتفريغ طاقات الشباب الهائلة في عبث من كل نوع، حتى لا تقوم لهم قائمة.
10- تكوين ولاءات وتكتلات عالمية للحرب على الإسلام والمسلمين، بطريقة ممنهجة دقيقة صارمة متتابعة استباقية، حتى نظل تحت التبعية والهيمنة والخضوع للنظام الدولي بقيادة اليهود والصليبيين.
وكان طريق العودة إلى الخلافة الراشدة الأمس واليوم وغداً هو الطريق الذي سلكته الرسل، وليس هو شيء آخر.. فلقد سلكنا كل طريق، وفشلنا في كل شيء؛ حتى وصلنا إلى هذه الحالة التي نحن عليها الآن!
يقول البعض:
- سأدعو إلى الإصلاح.. في إطار الدولة العلماني المتاح! فالنبي شعيب - عليه السلام - دعوته إصلاحية! نعم كل دعوات الرسل دعوات إلى الصلاح والفلاح والسعادة والخير والبركة والنماء، ضد الفساد والخسارة والظلم والشر. ولكنها كانت دعوة إلى الصلاح انطلاقاً من العقيدة.. وعلى أساس العقيدة. وعند التكذيب.. تكون المفاصلة على أساس العقيدة.
- يقول البعض سنسلك طريق التربية وتهذيب النفس، فما نحن فيه بذنوبنا.. وحصروا الذنوب في النظرة الحرام، والشهوة الحرام. ولم ينتبهوا إلى ذنوب الغفلة عن منهج الله، وذنوب التفرق في دين الله، وذنوب الجهل بسنن الله في النفوس والمجتمعات، وذنوب التهاون في إعداد القوة لملاقاة عدو الله.
- يُداهن البعض العلمانية، ويهادنها، ويتوافق مع أهواء الناس وشهواتهم، ويقول هذا هو المتاح، ونأخذ خطوة على الطريق، ولا يدركون أن أول خطوة.. هي الوقوف على الطريق الصحيح.
- يتبع البعض هواه في الدعوة إلى الله، ويبرر ذلك بالواقع السيء، أو يقول لكل دعوة حق: دع عنك التنظير والفلسفة والأريكة! الواقع مرير.. ولا يدركون أن هذه الأمة لن تحصل على حقوقها بمعزل عن العقيدة.
- سنسلك الطريق الذي سلكه الغرب وهو "الديمقراطية" لأنها قيمة إنسانية عالمية! وبها تقدم الغرب، ولم ينتبهوا إلى أن الديمقراطية لا تعمل إلا في إطارها العلماني، ولم ينتبهوا إلى أن الغرب عدو محارب، نحن في حالة جهاد وتحدي حضاري معه إلى يوم الدين. وأن الديمقراطية درجة من درجات الإلحاد، وعبودية الإنسان لنفسه وهواه. ( راجع - إن شئت - الفرق بين الديمقراطية والشورى، والديمقراطية والهوية ).
إن من أخطر الفئات على الأمة هي تلك "النخب السياسية" من أساتذة الجامعات، والرافضة للأوضاع السياسية، والتي تخرج علينا تحدثنا عن "صراع سياسي" هذه الفئة - وإن كانت صادقة - فهي ملتبسة بالعلمانية حتى النخاع! ولا تفهم طبيعة الإسلام ورسالته.. هكذا تعلمت، وهكذا درست!!
للأسف لم نجد بعد النخبة السياسية المسلمة، التي تنطلق من سياسة واقعية.. بعقيدة شاملة لكل الوجود ترد الأمر كله لله، وبتصور إسلامي نقي، يفهم المعركة، والصراع، والحل، والطريق.. بنور الوحي، لا بجاهلية الغرب.
إن "الديمقراطية هي الطريق لدولة الإسلام" ليست مجرد فرضية مستحيلة فحسب، وإنما هي أحد وسائل "هندسة الغضب"!!
كنا نحكم العالم، ثم أصبحنا في ذيل الأمم، لا نملك قوتنا، ويستبد بنا، ونستذل، ونستباح!!
حتماً ستأتي لحظة غضب نسأل: كيف حدث هذا؟! كيف نعود؟! ما المشكلة؟! ما الحل؟! أين الطريق؟!
في لحظة الغضب هذه يأتي إلينا مهندسو الغضب.. ليقولوا لنا: "الحل هو الديمقراطية" حتى يقطعوا علينا طريق العودة الحقيقي.. ونمضي في سرابها ربما مئات السنين، ويموت الجيل الذي غضب، وضل الطريق!
ليأتي جيل آخر يغضب فيأتي إليه مهندسو الغضب ليقولوا له: "الديمقراطية والسلمية هي الحل" حتي يقطعوا عليهم طريق العودة الحقيقي، وتُستفرغ الطاقات في العبث!
والله سبحانه يقول: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153]
وغيرها من الطرق والمسالك والتي تُعلن اليوم - لا سيما بعد فشل الثورات العربية - إفلاسها وفشلها، وبقي طريق دعوة الرسل هو الطريق الوحيد، وهو الجهاد.
***
وهذه هي طبيعة المنهج القرآني، وهذا هو الطريق الذي سلكه محمد صلى الله عليه وسلم:
"بدأ رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى: «إله» ومعنى: «لا إله إلا الله».. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا.. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ، ورده كله إلى اللّه.. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة.. السلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان..
كانوا يعلمون أن : «لا إله إلا اللّه» ثورة على السلطان الأرضي، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها اللّه.. ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيداً، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة: «لا إله إلا اللّه» - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم .. ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام..
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة اللّه أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بعث رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بهذا الدين، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس .. وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك!
وكان في استطاعة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وهو الصادق الأمين الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاماً والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً.. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها الثارات ، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة..
ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلاً من أن يعاني ثلاثة عشر عاماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - كان خليقاً بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه.. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه!
ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله - صلى اللّه عليه وسلم - هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا اللّه: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ إن اللّه - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه .. إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق .. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى يد طاغوت عربي..
فالطاغوت كله طاغوت!.. إن الأرض للّه، ويجب أن تخلص للّه. ولا تخلص للّه إلّا أن ترتفع عليها راية: «لا إله إلا اللّه».. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى طاغوت عربي.. فالطاغوت كله طاغوت!
إن الناس عبيد للّه وحده، ولا يكونون عبيدا للّه وحده إلا أن ترتفع راية : «لا إله إلا اللّه» .. «لا إله إلا اللّه» كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا للّه ، ولا شريعة إلا من اللّه ، ولا سلطان لأحد على أحد ، لأن السلطان كله للّه.. ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية اللّه.
وهذا هو الطريق ..
وبعث رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بهذا الدين ، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة .. قلة قليلة تملك المال والتجارة وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع.. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا!
وكان في استطاعة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - أن يرفعها راية اجتماعية وأن يثيرها حرباً على طبقة الأشراف وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء! ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة ، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه : «لا إله إلا اللّه» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل : إن محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها .. أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجهه هذا التوجيه ..
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق .. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله للّه ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به اللّه من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه اللّه ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع ، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير: «لا إله إلا الله»..
وبعث رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - والمستوي الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية. وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع.
وكان في استطاعة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين..
وكان واجداً وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة ، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير ..
وربما قال قائل: إنه لو صنع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها.. بدلاً من أن تثير دعوة أن لا إله إلا اللّه المعارضة القوية منذ أول الطريق!
ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى اللّه عليه وسلم - إلى مثل هذا الطريق ..
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق!
كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة ، تضع الموازين ، وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء!
فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء .. لما تقررت في القلوب: «لا إله إلا الله» .. صنع اللّه بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون..
تطهرت الأرض من الرومان والفرس.. لا ليتقرر فيها سلطان العرب.. ولكن ليتقرر فيها سلطان اللّه.. لقد تطهرت من الطاغوت كله: رومانياً وفارسياً وعربياً على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل اللّه، ويزن بميزان اللّه، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم اللّه وحده؟ ويسميها راية الإسلام، لا يقرن إليها اسما آخر ويكتب عليها: «لا إله إلا اللّه»! وتطهرت النفوس والأخلاق ، وزكت القلوب والأرواح دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها اللّه - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ولأن الطمع في رضى اللّه وثوابه ، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات ..
وارتفعت البشرية في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام ..
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعداً واحداً، لا يدخل فيه الغلب والسلطان.. ولا حتى لهذا الدين على أيديهم .. وعداً واحداً لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا.. وعداً واحداً هو الجنة..
هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان، في كل زمان وفي كل مكان، وهو: «لا إله إلا اللّه»! فلما أن ابتلاهم اللّه فصبروا، ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم، ولما أن علم اللّه منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض. ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت..
لما أن علم اللّه منهم ذلك كله، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى. أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها اللّه سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال.. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة اللّه ينفذونها، وعلى عدل اللّه يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم إنما يكون السلطان الذي في أيديهم للّه ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من اللّه ، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوي الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها.. راية لا إله إلا اللّه.. ولا ترفع معها سواها.. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص للّه، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، أو دعوة اجتماعية، أو دعوة أخلاقية.. أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد: «لا إله إلا اللّه»..
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير: «لا إله إلا اللّه» في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى، والإصرار على هذا الطريق.." (مقدمة سورة الأنعام - الظلال)
***
إن الوضع منذ سقوط الخلافة حتى هذه اللحظة هو ( مجاهدة الطواغيت والفراعنة ) ولا طريق غيره:
يقول الله تعالى:
{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 256]
{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة : 257]
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء : 60]
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }[النحل: 36]
عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قَالَ: "دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ: "فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ". [رواه البخاري]
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" [أخرجه مسلم]
فموقف المسلم من حكم الطاغوت هو ثلاث حالات هي "الجهاد" وليس ورائها مثقال حبة خردل من إيمان:
جهاد اليد: إسقاط حكم الطاغوت؛ وإقامة دين الله وشرعه.
جهاد اللسان: إسقاط شرعية الطاغوت وحكمه؛ وبيان كفره.. وتبليغ دين الله وشرعه.
جهاد القلب: إنكار حكم الطاغوت، وطرد ولائه من القلب.. فلا حب، ولا نصرة، ولا تأييد، ولا نصح، ولا مشايعة، ولا متابعة، ولا ولاء.
وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان.
ولابد من مواجهة الطاغوت خروج الأمة المجاهدة لا "التنظيم المسلح".. وتمضي في الطريق الذي سلكه محمد صلى الله عليه وسلم.
أمة مجاهدة: لكل مسلم فيها دور، فهذه تدعو في جوف الليل، وهذه تتبرع بمالها، وهذا يقاتل في سبيل الله، وهذا يبذل أبناءه، وهذا يقدم روحه، وهذا يخدم في مجال تخصصه، وهذا يقدم معلومة، وهذا يخطط ويرسم، وهذا يتحرك دولياً، وهذا يتحرك اجتماعياً... إلخ.
"إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه. هذا الواقع الذي يصطدم اصطداماً أساسياً بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش.
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته. وألا نعدِّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيراً لنلتقي معه في منتصف الطريق.. كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق"
"لقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه و سلم ثورة تحريرية كاملة للإنسانية، ثورة شملت كل جوانب الحياة الإنسانية، وحطمت الطواغيت على اختلاف أسمائها في هذه الجوانب جميعاً" (معالم سيد قطب - رحمه الله)
إن المسلم الحق: يدعو البشرية إلى توحيد الله - سبحانه - بلا شريك، سواء أكان هذا الشِرك في الاعتقاد والتصور، أو في العبادة والنُسك، أو في الحكم والتشريع. فيدعو الناس إلى "رسالة النجاة" التي لن يقبل الله سواها. وبها يضمن المسلم الجنة بإذن الله. فالمسلم الحق إنسان رسالي يؤمن أن: [ أن الدنيا ساعة من نهار - أنه يحمل رسالة أثقل من ملء الأرض ذهباً - أنه لا يدخل الجنة من كان يُشرك بالله شيئاً ].
المسلم الحق: يعمل على إقامة دين الله، ولا يتفرق فيه بغياً وظلماً.. ويمضي في الطريق الذي قضاه الله - تعالى - لهذا الدين، وهو الجهاد، فيجاهد بيده: ليسقط حكم الطواغيت والفراعنة، ويجاهد بلسانه: ليُسقط شرعيتهم ويفضح شِركهم، ويجاهد بقلبه: بعدم حبهم أو نصرتهم أو موالاتهم، وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان. وبإقامة الدين يضمن الناس متاع الدنيا، والسلام العالمي.
فإذا عجز المسلم عن إقامة الدين في واقع الحياة، فلا يمكن أن يُفرط في "رسالة النجاة".. فهذه قضية أبدية مصيرية، بينما الدنيا ساعة من نهار!
وكل ما لم نفهمه بنور الوحي، سنفهمه بمداد الدم!
31/01/2014
تعليقات
إرسال تعليق