صلح الحديبية والبرجماتية
ولا تنتهي شبهات أصحاب "الفكر البرجماتي" وكلما دُحضت لهم شبهة، خرجوا بأخرى ! { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [النساء : 66] ولكن في قلوبهم زيغ عن شرع الله، وعن كتاب الله.. فيتبعون أهوائهم ! { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } [آل عمران : 7]..
وكلما تبينت لهم معالم الطريق واضحة تامة.. عمدوا إلى التشويه والتغبيش وإثارة الشبهات، لا لشيء إلا ليثبتوا صحة زيغهم، واستكبارهم عن سماع الحق، والإذعان له..وكلما جاء الحديث عن "البرجماتية" يلقي البعض بـ "صلح الحديبية" على أنه فعل "برجماتي"!! فهل فعلاً صلح الحديبية فعلاً برجماتياً على الطريقة الغربية، أم سياسة شرعية على الطريقة الإسلامية؟!
* * *
نستعرض ملامح صلح الحديبية:
(1) الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخرج في "السنة السادسة" من الهجرة، هو وأصحابه لزيارة بيت الله الحرام.
(2) باقتراب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة، علمت قريش بمجيئهم، وقالت: لن يدخلوها عنوة، واستعدوا لقتالهم.
(4) تُرسل إليهم قريش لتعلم منهم حقيقة ما جاءوا من أجله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤكد على أنه جاء للزيارة، وقال عندما علم أن قريش تريد منعه: "يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة" (يقصد: الموت) [السيرة النبوية/ ابن هشام]
(3) خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس: خلأت الناقة. "أي بركت على الأرض في مكان يُسمى الحديبية" فقال: "ما خلأت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " - [ وفي رواية البخاري ]:" والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها ".
(5) الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ليؤكد لقريش حقيقة ما جاءوا من أجله، فيحبسونه عندهم، ويُشاع أنه قُتل.. فيستعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقتالهم؛ وبياعه من معه على الموت وعدم الفرار، وفيهم نزل قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } [الفتح: 18]
(6) ولما علمت قريش ذلك، أطلقت عثمان - رضي الله عنه - وأرسلت سهيل بن عمرو للتفاوض، والصلح.
(7) فاتفق سهيل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على:
- أن يرجع المسلمون هذا العام ويعودوا في العام القادم.
- وأن تتوقف الحرب بينهما لمدة عشر سنوات.
- وأن من أراد أن يتحالف مع المسلمين فله ذلك، ومن أراد التحالف مع قريش فله ذلك.
- وأن يرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جاء إليه من قريش دون إذن وليه، ولا ترد قريش من يأتيها من المسلمين.
(8) يغضب بعض الصحابة لهذه الشروط التي تبدو مجحفة في حقهم، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبشرهم بالفتح والنصر.
(9) المسلمون الذين لم يأويهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب شروط الصلح، أقاموا جيشاً صغيراً يعترض قوافل قريش ويحاربهم !
(10) قريش تنقض العهد بعد مرور سنتين، فيأتي إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه المرة ليس للزيارة، وإنما لفتح مكة.
هذه ملامح صلح الحديبية باختصار شديد، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب السيرة أو تفسير سورة الفتح "في ظلال القرآن".
* * *
لنحاول النظر إلى "صلح الحديبية" بعيداً عن كون من أتم هذا الصلح هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعيداً عن نزول سورة الفتح فيه ! وبعيداً عن قوله - صلى الله عليه وسلم - في ناقته: " حبسها حابس الفيل عن مكة" وقوله في نية الصلح: "لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم وتعظيم حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" وننظر إليه نظرة سياسية متجردة !
الوضع السياسي لدولة المدينة:
(1) قائد يؤسس لدولة "الاجتماع فيها على الإسلام، والانتساب فيها للشرع".
(2) تتعرض هذه الدولة لمخاطر جمة تستهدف استئصالها.. فخاضت حروب كثيرة: الأولى: غزوة بدر.. وسُميت غزوة الفرقان في السنة الثانية من تأسيس الدولة، وانتصرت فيها دولة المدينة انتصاراً كبيراً. والثانية: غزوة أُحد.. في السنة الثالثة من تأسيس الدولة وكانت على مشارف النصر، لكن عصى البعض أمر القيادة فجاءها الدرس البليغ لتتعلم، واستدركت الخطأ. وفي السنة الرابعة: غزوة بنو النضير لتطهير دولته من رجس اليهود.. وفي السنة الخامسة: غزوة الخندق "الأحزاب" ومحاولة أخرى للاستئصال.. ونصر الله فيها دولة المدينة. هذا غير غزوات ذات الرقاع، وبدر الآخرة، ودومة الجندل، وبني قريظة، وبني لحيان، وذي القرد، وبني المصطلق، وكلها كانت قبل "صلح الحديبية".
(3) المجتمع بهذه الدولة في صورة متينة وقوية من العلاقات.. وبنيان مرصوص يشد بعضه بعضا، في حالة فريدة من السلم والأمن الاجتماعي.
(4) بعد ست سنوات على نمو هذه الدولة.. وبعد خوضها الحرب والجهاد ضد أعدائها، وبعد أن خلعوا عن أنفسهم "السلم والهوان" والخوف من الفجوة المادية والعددية بينهم وبين عدوهم.. قرر القائد الذهاب لزيارة المسجد الحرام - بمكة (حيث خصومه هناك) - وليس محارباً.
(5) ومن عادة العرب في الجاهلية وفي الشرك.. أن لا يمنعوا أحداً من المسجد الحرام، فهم يعظمون حرمته، ويعظمون الأشهر الحرم، حتى من له ثأر يطوف مع القاتل لا يرفع في وجهه سلاح! ولكنهم كانوا يكرهون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويمنعون دعوته، فقرروا أن يمنعوه من دخول مكة !!
(6) القائد لم يأت لقتال وإنما لزيارة وعبادة، وساق الهدي.. وأرسل مندوب له ليتفاوض مع أهل مكة ويخبرهم أنهم جاءوا زائرين لا مقاتلين.. تأخر المندوب، وشاع الناس أنه قُتل.
(7) القائد يستعد للقتال، ويبايعه أتباعه على الموت وعدم الفرار.
(8) مقتل المندوب خبر غير صحيح.. وأرسلت قريش رجلاً من أهل التفاوض والدبلوماسية.. أدرك منه قائد دولة المدينة أن إرساله يعني "طلب الصلح".. لا الحرب.
(9) القائد يُقرر الصلح.. ولاحظ القائد أن مفاوض قريش يحاول الاستفزاز، والتمسك بسلوك الجاهلية.
(10) القائد يَخبر أحوال الجاهلية، ومنطلقاتها والطبيعة النفسية لأهلها، فلا يستجيب لاستفزاز المفاوض، ويركز على "الأهداف" التي يريد.
(11) القائد يتم الصلح، ويتم الاعتراف بدولته.. ومجتمعه، وكيانه.
(12) القائد بعدما خاض الغزوات.. وأدرك أن مجتمعه أصبح من الإيمان والشجاعة والإقدام على خوض الحروب والجهاد.. كان لا بد من الدرس الثاني وهو: السكينة للدعوة والانتشار، وأن تضع الحرب أوزارها حتى يتفرغوا في دعوة باقي الجزيرة حولهم.
(13) أتباع القائد تغضب من الشروط التي تبدو مجحفة في الصلح.. والقائد يصبّرهم، ويقول لهم: "إن هذا لفتحاً مبينا".. فليس الغرض في كل الأحوال هو "القتال" بل هو "الدعوة" أيضاً.
(14) وبالفعل تنجح الدعوة وبعد أن كان عدد الذين خرجوا في صلح الحديبية ألف وأربعمائة.. أصبحوا بعد "سنتين" عشرة آلاف.
(15) القائد يفتح مكة بعد "سنتين" من الصلح - بعد أن نكثت قريش صلح الحديبية - ودانت له الجزيرة كلها، ومن ثم المنطلق لفتح الأرض لدين الله.
* * *
صلح الحديبية ملئ بالدروس والعبر.. ولا أستطيع التفصيل أكثر - في هذا المقال - ولكن هل شعر القارئ الكريم، بما يُشيعه أصحاب "الفكر البرجماتي"؟! أين هي البرجماتية التي يتحدثون عنها ؟
إنهم دوماً - وعن عمد - يخلطون بين "السياسة الشرعية" والبرجماتية؟
السياسة الشرعية على حالين:
الأول: وجود دولة تجتمع على الإسلام، وتنتسب للشرع.. فتكون "سياستها الشرعية" من أجل "الشرع" وتحقيق "مصلحة الإسلام" في الدعوة والانتشار، ومصلحة عموم المسلمين بما تقتضيه الظروف، فتكون هذه السياسة الشرعية: حرباً حيناً، وهدنة، وصلح، وعهد... إلخ حيناً آخر.
الثاني: عدم وجود دولة تجتمع على الإسلام، وتنتسب للشرع.. فتكون "السياسة الشرعية" هي: الجهاد في سبيل الله.. من أجل إقامة هذه الدولة.
أما البرجماتية: فهي تحقيق مصالح خاصة ذاتية لفرد أو حزب أو جماعة.. تكون القيمة العليا فيها هي "المصلحة الذاتية" الآنية القريبة.. وليست مصلحة للإسلام ولا لتحقيق الشرع ولا لنفع عموم المسلمين !
فيتم الخلط بين "السياسة الشرعية" والبرجماتية؛ فيلتبس على الناس أمر دينها، ولكَم هو الجُرم الكبير الذي يرتكبه أصحاب دين "الإسلام المدني الديمقراطي" في هذا التدليس؟! فهم في غيهم يعمهون ! فضلوا وأضلوا عن سبيل الله كثيرا !!
ويتخذون من صلح الحديبية وغيره - كالنجاشي - دليلاً على صحة مسلكهم في تصالحهم مع "الطغاة والفسدة" وإعطائهم الشرعية؛ ومشاركتهم في حكوماتهم، والعمل لديهم، واتباع "المسار السياسي" للظالمين !
وهذا الزيغ ليس بسبب "قلة العلم" بل بسبب "البغي والظلم".. البغي: في التعدي على "شرع الله" وحدوده ومقاصده.. البغي: في محاربة من يدعو إلى الشرع والجهاد، البغي: في جعل الموالاة والمعاداة على أساس الحزب والشيخ والجماعة: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } [الجاثية : 17]
وإذا رد البعض شبهاتهم وضلالاتهم.. قالوا: صلح الحديبية، لقد صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين ! دون أن يعرف أحد ملابسات الصلح، ولا طبيعة الدولة التي كانت قائمة، ولا الغرض منه.. ولكن المهم أن تُلقي بالشبهة، وهم مطمئنون أن الناس لا تقرأ، وستَمل من البحث عن الحقيقة !! فيحسبون أنهم على شيء !!
وإن الحزبية والعصبية الجاهلية وعبودية الأشخاص.. ليست تؤدي فقط إلى: (1) تحريف الكلِم عن مواضعه، ولا فقط (2) قطع الطريق على الدعاة لدين الله، بل تصل (3) إلى القتل.. فهو مرض يحلق الدين، والعياذ بالله.
وفي فتن كقطع الليل المظلم.. من لم يتطهر من هذه الحزبية والعصبية، ويبرأ إلى الله من هذه الانحرافات؛ فهو على طريق الهلاك.
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران : 105]
* * *
روابط ذات صلة:
تعليقات
إرسال تعليق