أحكام الديار وقيام الدول

يتنازع الكثير من الناس في مسألة "أحكام الديار"، ثم يقول كل منهم بيننا وبينكم الشرع، ثم ننظر ما هو الشرع الذي تخضع له الأعناق، وتُسلّم له القلوب، وتسكت بعده الألسنة.. لا نجد سوى "اجتهاد" الفقهاء، وهو اجتهاد عظيم نتفاخر به، لكنه يبقى في إطار "الاجتهاد" لا "الحق المطلق" المتعلق بالعقيدة والإيمان. !

والشرع شيء، واجتهاد الفقهاء شيء آخر، فالشرع: جملة وتفصيلاً لا يسع أحد الخروج عنه، أو رده، أو تقديم رأيه على دليل ثابت قاطع الثبوت والدلالة. وأما الفقه: فهو "اجتهاد" لاستنباط الأحكام الشرعية.. مظنة اتباع الحق، وصراط الله المستقيم، وفيه - عند الاختلاف - لا يحق ولا يجوز الرمي بالتفسيق، والتنابذ، والتمذهب، والتحاسد والتباغض، والكِبر والعناد - كما حدث ويحدث للأسف - ولقد تنوعت أقوال الفقهاء المعتبرين قديماً وحدثياً في مسألة أحكام الديار.. سبق الحديث عنها في مقال:"أحكام الديار كما جاءت في نُقولات الفقهاء".
ولن أسلك مسلكهم في استنباط وبسط أدلتهم وأقوالهم، ويكفي القول: أن المسألة يتأرجح فيها الخلاف، وغالباً ما يكون "لفظياً"..
ولعل العلاّمة ابن تيمية - رحمه الله - هو الذي أصّل لمصطلح جديد غير "دار الإسلام"، و"دار الكفر" في إجابته للفتوى الشهيرة عن حكم "دار ماردين" وسمّاها بـ "دار مركبة" تغلب عليها الكفر - التتار حينها - وبقي أهلها مسلمون.
وأصبحنا أمام ثلاث مصطلحات:
دار إسلام: يعلوها أحكام الإسلام، وأهلها مسلمون ( وإن كانوا قلة ).
دار كفر: يعلوها أحكام الكفر، وغالباً ما تكون "ديار حرب" في مصطلح الفقهاء.
دار مركبة: كانت دار إسلام يعلوها أحكام الإسلام، وأهلها مسلمون.. ثم دخلها عدو فتغلب عليها، وحكم بغير شريعة الإسلام، وأهلها مسلمون مُستَضعفون.
*   *   *
ومع ما صارت إليه الأمة المسلمة بعد سقوط "الدولة العثمانية" وتمزق العالم الإسلامي تحت "المكر الصيهوصليبي" والغزو العسكري والفكري والسياسي والاقتصادي للعالم الإسلامي.. وقع لدى المسلمين حالة من "انهيار الوحدة السياسية" و"فقدان الهوية الإسلامية" وتَغلب عليهم حُكام تارة يقولون أنهم جاءوا برضى الشعوب واختيارها وثوراتها، وتارة يقولون أنهم ورثوا الحكم كولاية عهد لمن يليهم هم وأُسرهم إلى قيام الساعة... إلخ، ويدعون احترامهم للإسلام وشعائره، بل ويمارسونها أمام الجماهير، بل ويَدعون الدفاع عن الإسلام !
فحدث حالة من فقدان "الوعي الشرعي" و"الوعي السياسي" و"الوعي التاريخي" بحال الأمة المسلمة، وبحقائق الإسلام الثابتة.
وعملت الحُكام على قمع أي مد إسلامي، أو ثورة إسلامية، أو حتى تغيير سلمي يخفف عن المسلمين معاناتهم في أغنى بقعة في العالم.. ثروة ومكانة جغرافية وتاريخية وحضارية !
وصار الحكام لا يقوم حكمهم - في عصرنا - إلا بـ "قوى الجبر الصليبية" المتسلطة على الأمة المسلمة، والمهيمنة عليها، والتي تمنع أي وسيلة للتحرر من أسرها، سواء أكانت دعوية أم سلمية أم سياسية أم جهادية.. الكل سواء، والكل يجب أن يَخضع ويَذل للشرطي الصليبي حامي "العالم العلماني" !!
وهكذا نرى أن أزمة المسلمين تتلخص في قضية "الشرع" الذي هو قضية عقيدة ، قبل أن يكون هو وسيلة تحرير الأمة، وسبيلها لإقامة الحق والعدل الرباني. وفي قضية "الجهاد" الذي لا مفر منه لتحرير الأمة من الطواغيت ومن يدعمهم، وينضوي تحت رايتهم لحرب الإسلام والمسلمين.. وإن الذي يقف أمام هذا الحل.. وهذه العودة ليس هو قوة العدو، بقدر ما هي أمراض العقول والقلوب في نفوسنا !
ونجد أننا بحاجة إلى رفع الغشاواة من على هذه الأمة، وبيان الحقيقة كاملة لها، في محاولة - لا تتوقف - لإسقاط "شرعية هذه الأنظمة"، وفي بيان حقيقة الشرع فيها، وفي إعدادها للجهاد، ولحمل رسالة الله إلى العالمين، وقطع أي شبهات أو دعوات تحيد بها عن هذا الطريق.
ولكن عندما جاءنا للنظرة الواقعية لحال هذه الأمة، وجدنا التنازع، والتنابذ حول مسمى "الديار" هل هي ديار كفر أم ديار إسلام؟ والتهم جاهزة - وما أسهل إطلاقها - هذه مرجئ، هذا خوارج... إلخ. متأثرين - وللأسف - بمنهج "الإدانة والحكم" - لا "التحليل والتشخيص والعلاج" - هذا المنهج الذي لا هم له إلا "إثبات" أن ما معه هو الحق المبين، وغيره الباطل المحض، ثم إلقاء "التهمة" على غيره، ثم يأتي المخالف ليفعل نفس الفعل، بنفس الطريقة، بنفس الأسلوب !
*   *   *
وإننا حين نُمحص القضية، ونمعن النظر، نجد أنه في أحيان كثيرة يكون الخلاف لفظياً ! فمثلاً في موضوع الديار هذا قد يقول قائل عن بلادنا هذه :
·             هذه ديار كفر: ولكن أهلها مسلمون.. وتجري عليهم أحكام الإسلام، والحكام طواغيت يجب جهادهم باليد واللسان والقلب.
·             هذه ديار إسلام: وأهلها مسلمون.. وتجري عليهم أحكام الإسلام، (فحتى لو استولى عليها الكفار، لا تسمى دار كفر لأن الإسلام يعلو) والحكام طواغيت يجب جهادهم باليد واللسان والقلب.
·             هذه ديار مركبة: وأهلها مسلمون.. ويُعامل فيها كل على حسب حاله، وتجري عليهم أحكام الإسلام، والحكام طواغيت يجب جهادهم باليد واللسان والقلب.
نجد أن "المحصلة النهائية" واحدة.. طالما أنهم لم يقولوا:
·             هذه ديار كفر جميع أهلها كافرون.
·             أو هذه ديار إسلام جميع أهلها مسلمون، ويجب "طاعة الطواغيت".
نجد أن "المحصلة النهائية" واحدة وهي:
·             حفظ دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وبقاء ولاية النسب وأحكام الإسلام، ونقبل منهم ظاهر الإسلام، ومن تَلبس بشرك - والعياذ بالله - فهو محل الدعوة لا القتال.. لأنه مُسالم لم يُعادي شريعة الإسلام، ولم يُفارق جماعة المسلمين، ولم ينضوي يقاتل تحت راية عدو الملة والدين.
·             مجاهدة الطغاة والطواغيت باليد واللسان والقلب، وإسقاط شرعيتهم، وعدم إعطائهم أي شرعية، أو الانجرار إلى دجل - لا جدوى منه سوى إهدار طاقات المسلمين في عبث لن يفضي بهم لشيء -، ومجاهدة القوة التي تمنع عن المسلمين إقامة دينهم، وشرع ربهم.
ونجد في التاريخ صوراً مشابهة - إلى حد ما - لحالنا هذا يمكن الاستئناس بها - فمثلاً حكم دار ماردين السابق ذكرها، ودعوة ابن تيمية - رحمه الله - المسلمين لتطهير بلادهم من التتار المغول، وكذلك في نموذج ملوك الطوائف بالأندلس، وفتوى العلاّمة الغزالي والطرطوشي وابن حزم في تفكيك دول ملوك الطوائف، وإسقاط حكامها - الذي تعاونوا مع النصارى لقتال بعضهم البعض على المُلك - وإذلال المسلمين، ودفعهم الجزية للنصارى ! وانتشار الفسق والفجور! وطلب أهلها النجدة من "يوسف ابن تاشفين" الذي تحرك لضم الأندلس تحت راية "دولة المرابطين".
وكذلك نجد في نموذج "الدولة الزنكية الأيوبية" مثلاً شبيهاً - مع اختلاف الملابسات - مع دولة المرابطين.. وغياب الوعي بتاريخنا يُحدث - وللأسف - أزمات على مستوى الفكر، وعلى مستوى الحركة كذلك، رغم ما في التاريخ من عبر ودروس وسنن.
فنجد أن الأمة بعد الخلافة الراشدة وقعت أسيرة:
·             "الملك العضوض": وفيه فترات سقط فيها المسلمون سقوطاً مدوياً، حتى استحل الحُكام قتل المسلمين في مجازر وحشية مروعة، وحتى حكمت الجواري الرومية وغلمانها قصور المسلمين و"بيت الخلافة!"، وحتى انحرفوا عن شريعة الإسلام في سياسة المال والحكم - إلا قليلا -، وحتى حُكموا بغير شريعة الإسلام - في فترات -، وقال ابن حزم في ملوك الطوائف: "لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية لأمورهم لبادروا إليها"، وقال: "ما تقولون في سلطان جعَل اليهودَ أصحابَ أمره، والنصارى جنده، وألزم المسلمين بالجِزْيَة [ دفع المسلمون جزية للنصارى تقدر بـ عشرين كيلو جراماً من الذهب سنوياً !] وحمل السيف على أطفال المسلمين، وأباح للمسلمات الزنا، وحمل السيف على كل مَن وجد من المسلمين، ومَلَك نساءَهم وأطفالهم، وأعلن العبث بهم، وهو في كل ذلك مقرٌّ بالإسلام، ولا يدع الصلاة؟" ويرد ابن حزم: "بأن قتال هذا السلطان فرض" [الفصل في الملل والنحل].
ومتى أبصر المسلمون الطريق الصحيح - عادوا وعادت دولتهم، ومتى حققوا السنن الإلهية.. انتصروا - ولن تحابي سنن الله أحداً - ومتى أخلدوا للمتاع والملك، زالت دولتهم، وهكذا تجري سنن الله.
·             "الملك الجبري": وفيها تمزق العالم الإسلامي، وتجبرت علينا قوى الصليب، وحاربت ديننا وهويتنا وثقافتنا وحضارتنا، تريد سلخنا من كل شيء، ونصّبت علينا عملاء ، يحاربون المد الإسلامي، ويمنعون الشرع تارة، ويمتدحونه تارة، وينتسبون إليه تارة! لا هَم لهم إلا "المُلك والمتاع والرياسة والسلطان" ورضى "السيد الصليبي" عنهم، فسرقوا ثروات الأمة، وأذلوها.. وحاربوا الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإننا في هذا الأَسر.. لا سبيل لنا إلا "التزام الشرع، والقيام بالجهاد" ولن يُغني عنا الاختلاف والتنازع حول "المسميات الفقهية" للديار، طالما "المحصلة النهائية" واحدة.. لن يُغني عنا اتهام بعضنا البعض، ولن تُحابينا سنن الله، ولو بكينا طوال أعمرنا ! لن ينفعنا "التفرق" في الدين بعدما جاءنا العلم بسبب "البغي" الحاصل بيننا ! ولن ينفعنا "التحزب" شيعاً وفرقاً وجماعات، ولن تقوم لنا به قائمة.
*   *   *
إننا نجد أن نجاح المسلمين في استرداد دولهم عبر التاريخ كان يتلخص في الآتي:
·             وعي المسلمين بما يجب القيام به، ومعرفة وإدراك حالهم وزمانهم.
·             التأليف بين قلوب المسلمين، ونزع أسباب الشقاق والنفاق والسمعة والرياء والمُلك وحب الزعامة والسلطان.
·             تأثر جماهير المسلمين بقياداتهم وزعمائهم، والإقبال عليهم، وقدرة القيادات المخلصة على حشد الشعوب، واستثمار قوتها بكل عزم ويقين، وإكمال الطريق معها للنهاية دون انحراف أو تبديل.
·             ظهور القيادات بمظهر المنقذ للأمة من محنتها العصيبة، وإتقان خطاب الجماهير بصورة تستوعب مستوى وعيهم وفهمهم، والحفاظ على صورة إعلامية جاذبة للجماهير لضمان ولائها ودعمها.
·             الخبرة السياسية والعسكرية للقيادات التي قررت تولي زمام المبادرة، وقدراتها على "التوازن" في رؤية الأحداث دون شطط أو سفه.
·             غزو خارجي، أو ثورة محلية.. تفككت على إثرها المنظومة الأمنية للنظام القائم، فانتهز المسلمون الفرصة، وأقاموا دولتهم.
·             صدع مشاهير العلماء والفقهاء بـ "الحق الخالص" الذي لا شبهة فيه، ولا غموض، ولا غبش.. لا يخافون في الله لومة لائم فيه، فتستجيب له جموع المسلمين.
·             قيام دولة من خلال العصائب القبلية والعشائرية.. والتزامها الحق والعدل الرباني، وتحقيقها أسباب القوة، ثم يَطلب المسلمون - في الدول المجاورة - دعمها في إسقاط نظم حكمهم كما حدث في "دول ملوك الطوائف" واستجابة "دولة المرابطين لهم"، وبذلك "تمددت" دولة المرابطين لتسيطر على أكثر من ثلث أفريقا باتجاه الجنوب وكل الأندلس باتجاه الشمال، فنجحت في "خطة التمدد".
هذه بعضاً من المفردات - باختصار - التي كانت بها تقام الدول وتسقط بغيابها، زيادة عليها - في عصرنا - "الهيمنة والسيطرة العالمية" علينا، فما هو الأولى بنا ؟!
أن نتنازع في "المسميات الفقهية" حول أحكام الديار؟! أم نفقه فقة قيام الدول والحضارات، ونقرأ التاريخ، ونعي الدرس جيداً.. حتى لا نصطدم يوماً بالسنن وهي تؤدب الخارجين عن "سنن الله" في قيام الدول؟! هل ننشغل باتهام بعضنا البعض، أم نفقه فقة "قوة الدول" وثباتها، وتماسكها، وكيفية تمددها النجاح ؟!
*   *  *
إننا بحاجة إلى ثورة داخل "العقل المسلم" تُفكك النظريات التربوية القديمة، وأسلوب طالب العلم الشائع الذي لا يفقه سوى "النقل عن الفقهاء" ما يوافق رأيه، أو يتفق مع أسلوب تربيته وبيئته وقناعاته..
نحن بحاجة إلى "رجال دولة" تستطيع أن تجمع بين "نصوص الشريعة الغراء" وبين "فقة السنن" وبين "الفقه السياسي" حتى تكون بحق.. دعائم لقيام دولة الإسلام، والمطلوب من المسلم ( المحاولة ) المستمرة من أجل إنجاحها.. بعيداً عن انتظار معجزة إلهية، أو طريقة غامضة الأسباب !
هذا هو العمل.. وهذا هو الطريق.
*   *  *
موضوعات ذات صلة:

*   *   *

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شبهات حول فكر قطب

الجيا والدولة

تكفير المتوقف في التكفير