مسؤولية المسلم وجهاده
هل المسلم مسؤول عن نتيجة جهاده في سبيل الله ؟
بديهي لدى كل مسلم أنه مسؤول عن نتيجة عمله، ومحاسب عليه.. فهو يؤمن بذلك إيماناً قاطعاً جازماً، إلا أن الأمر يختلف كثيراً عندما يعتقد أن عمله - كالجهاد والعمل للإسلام - يختلف عن غيره، ويختلط في "فكره" مفهوم العقاب والابتلاء، ومفهوم القيام بالسنن والقوامة على السنن. ومن هنا قد تنشأ "رعونة" حركية وجهادية تجاه عمله.
يقول في نفسه ولغيره - من أتباعه - عليّنا أن نقدم الأسباب، فإذا فشلنا، فقد أدينا ما علينا، وليس علينا من حرج.. فإنما هو ابتلاء ليُمحص الله الذين آمنوا، أو ابتلاء ليتخذ الله الشهداء، أو ابتلاء لتخاذل الأمة، فيُبرأ ساحته من الخطأ، ويُنزهها من النقص من دون أن يشعر !!.
يجب أن نفهم أن الابتلاء هو سنة الحياة عموماً.. وهو يجري إما بالخير والرخاء، وإما بالشر والشدة: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء : 35]
والابتلاء بالخير، قد يُصيب الإنسان بالركون، والاستغناء.. فيأتي الابتلاء بالشر ليكون دافعاً للرُجعى إلى الله، والتضرع له.. ولكن يأتي الشيطان - في حالة قسوة القلوب بالكبر والبغضاء - ليُزين الباطل حقاً، ويمنع الانتفعاء بالغاية من الضراء، وفي هذا قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 42، 43] { وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [السجدة : 21]
وقد يقع للإنسان الضر دون دخل له فيه، ولا بسبب شيء قدّمه.. سوى إرادة الله المطلقة، ومشيئته الحرة، وحكمته البالغة في كل قدر وأمر. وهذه الأسباب الخارجة عن فعل الإنسان وإرادته واختياره بل وقد تكون مضادة للأسباب التي يختارها ويتخذها ويمضي فيها.. عندما يحصل له - على المستوى الشخصي - ما يكره، فإن هذا يكون له بلاء وتمحيصاً لحكمة يريدها الله.
وعندما يختار الإنسان بإرادته، ويتصرف وفق ما اختاره وأراده - وعندما يكون ذلك مما لم يأمر به الله ولا يحبه - فإن ما يقع عليه من شرور وآثام فهو "عقاب" بما قدّمت يداه - لعله يرجع - وجزاء وفاقا على ما فعله من "أسباب" جلبت له - بإرادة الله سبحانه - "العقاب" الذي يُرجى من خلاله التوبة والإنابة إلى الله.
ولأن الإنسان يعيش داخل "مجتمع" ويؤثر ويتأثر به.. فإنه قد يكون الحدث الواحد - نتيجة الشر - قد يكون "عقاباً" للبعض و"بلاء" لدى البعض الآخر. فمن أتى أسباب الشر والفساد حلّ عليه ما كسبت يداه، ومن كان بعيداً بريئاً عن ذلك وأصابه من هذا العقاب العام، فهو ابتلاء له. ولهذا جاء الحشد الكبير من الآيات والأحاديث في الأخذ على يد الظالم، وإنكار المنكر.
وفي هذه السطور نتحدث بالتحديد عن "الإشكالية الفكرية" في مسألة خلط "العقاب بالابتلاء" فتضيع فرصة "التوبة والتصحيح" لأنه في حالة الظن أن "العقوبة" هي "ابتلاء" واصطفاء من الله لأولياء الله، ففي هذه الحالة سنقطع على أنفسنا التوبة والتصحيح والتسديد والتقريب، بل سنعتبر أنفسنا أصحاب الصراط المستقيم والنهج القويم.. والدليل "الابتلاء" ! وهو أحد الحيل النفسية للهرب من مواجهة الخطأ، وتقديس الذات !.
* * *
في درس غزوة أحد، وهو أحد الدروس القرآنية العظيمة التي أُفردت لها الآيات الطوال وهي تتحدث عن تلك الغزوة، وأحد الدروس شديدة التكلفة على الأمة المسلمة الوليدة، وهي تدفع من دماء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن دماء الصحابة الكثير؛ حتى نتعلم هذا الدرس..
في غزوة أحد: تبين أن هناك "عقاب" أصاب الرماة بسبب عصيانهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك "ابتلاء" نزل بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثبت معه، وفي هذه الحالة لا يمكن للرماة العصاة أن يقولوا: لقد "ابتلانا" الله بذلك لشدة إيماننا وليتخذ منا الشهداء.. بل قال: { قل: هو من عند أنفسكم } فهم سبب الهزيمة. وقال للصابرين الذين أصابهم البلاء: { وليُمحص الله الذين آمنوا } { ويتخذ منكم شهداء } فجعل في نهاية الابتلاء مقام عظيم هو اتخاذ الشهداء على هذا الدين، وتمحيص إيمان المؤمنين.
وعلى الجانب الآخر: بين تحقيق السنن الإلهية والقيام بها، وبين من له القوامة على تحقيق المسببات والنتائج.
نجد أن السنن لا تحابي أحداً، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بل هو القدوة والمعلم في تحقيق السنن، واستفراغ الوسع، وبذل الجهد، دون تواكل أو سوء ظن. ولما اختلت هذه السنن، كانت النتيجة "الهزيمة"، حتى لا يبق في صدر مسلم أنه عندما يجاهد في سبيل الله أو يقوم لهذا الدين أن الله سيُحابيه أو يخرق له السنن والقوانين لأنه يقوم لله.. كلا، إنه لحكمة بالغة جعل الكافر والمسلم سواء أمام هذه السنن، ولعدله جعلها لا تُميز بين مسلم وكافر، فمن يخرق السنة، يحق عليه قانونها.
ولكن مَن يحقق الأسباب، ويُخرج النتائج، وله القوامة على السنن.. وله القوامة على كل شيء، وبه يقوم كل شيء.. هو الله وحده لا شريك له. يَحكم فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.
ومن هنا نتجه إلى البحث عن "النتائج" في الجهاد والقيام لهذا الدين عموماً.. هل المسلم مسؤول عن نتيجتها ؟
بالطبع مسؤول عن نتيجتها في الدنيا.. ومحاسب عليها حساباً عسيراً - من الأمة، أو من الأجيال التي ترصد تجاربه وعمله - وفي الآخرة: نسأل الله المغفرة لكل صاحب نية صادقة قام لوجه الله الكريم، ولا نخوض فيها، فكلنا في خشية منها ووجل.
إن المسلم عندما يجاهد في سبيل الله، أو يقوم لهذا الدين لا يعني أنه معه "صك البراءة" و"صك العصمة".. كلا.. إنما هو مسؤول عن نتائج جهاده، ونتائج ما يقوم به لهذا الدين، ولا ينفعه أن ينسب نفسه لـ "الطائفة المنصورة" أو "الصراط المستقيم" !! أو يَمن بجهده وجهاده على القاعدين.
فحقاً "النتائج على الله" بمعنى أنه لا يقع في هذا الكون من صغيرة ولا كبيرة إلا بإرادة الله ومشيئة المطلقة، والنتائج على الله يحكم فيها بعدله وحكمته، ولا تُحابي سننه أحداً عدلاً منه، ولطفاً. وبمعنى أنه سبحانه مُسبب الأسباب، وليس المعنى أن يأتي المسلم برعونة وتغافل وسفه بعض الأسباب ثم ينتظر أن تحل "المعجزة الإلهية" ويتحقق له النصر بطريقة سحرية غامضة الأسباب، فقط لأنه مسلم !.
وإنه عندما لا يحسب نفسه مسؤولاً عن "نتيجة" جهاده وجهده وأثره وقيمته وهدفه وغايته.. فإنه وبشكل تام صريح يعتقد - من حيث لا يشعر - أنه "معصوم مقدس" معصوم من الخطأ، ومُقدس عن النقد ! ومن ثم تحدث كوارث حركية تُضيع ثمرة الجهاد، ويتكاسل العقل عن "التصحيح والتسديد والتقريب والمراجعة" و"تتكرر" نفس الأخطاء، بنفس الكوارث.. دون الاستفادة من دروس التاريخ، وندور في حلقة مفرغة من التيه. فتحضر العاطفة المفرطة في تناول جميع الأحداث، ويغيب العقل تحت هيجان العاطفة.
والكلام عن الجهاد هو نفسه الكلام عن الدعوة وعن السياسة الشرعية.. وعن كل عمل لهذا الدين، ليس لصاحبه عصمة ولا براءة، بل هو مسؤول عن نتيجة الإخفاق والفشل، ومسؤول عن تكلفة الدماء والتضحيات التي يأخذها من الأمة، ومسؤول عن حرق طاقاتها وعاطفتها نتيجة حسابات خاطئة على سبيل المثال.
وهذا الأمر يأخذنا إلى "الآلية" الصرامة في قراءة قضايا الأمة المصيرية، و"المنهجية العلمية" المنضبطة في حلول ومعالجة تلك القضايا سواء أكان الحل: هو الدعوة أو القتال أو السياسة... إلخ.
وإن هذه "الآلية" في تناول قضايا الأمة سواء فهماً أو علاجاً.. للأسف الشديد نفتقد أبسط مناهج البحث العلمي الدقيق في التعاطي معها، بل ولسفهنا نسخر من المحاولات المتواضعة هنا وهناك ممن يحاول فعل ذلك، ونتهمه بـ "التنظير" حتى أصبح تهمة !!.
- وإن العجز عن فهم قضايا الأمة، ووضع منهجية دقيقة تناسب العصر الذي نحن فيه - وتتفوق على مثيلاتها لدى عدونا الذي يُنشأ مراكز للفكر والبحث لكل جزئية ولو كانت بسيطة أو تافهة - لهو ترك للسنن وعدم التزامها.
- وإن العجز عن فهم بواعث الناس وتفكيرها والقدرة على التأثير فيها، لهو ترك للسنن وعدم التزامها.
- وإن استعجال الأهداف وحرق المراحل، وعدم التخطيط الجديد، لهو ترك للسنن وعدم التزامها.
- وإن التعامل العاطفي الساذج مع النوازل العظام، لهو ترك للسنن وعدم التزامها.
- وإن عدم التخطيط المناسب والتنفيذ الدقيق - وفق مقتضيات كل عصر - لهو ترك للسنن وعدم التزامها.
..... إلخ.
وقد يفهم المسلم الأسباب فهماً قاصراً أو يحصرها في شيء واحد، ويعتقد بذلك أنه أدى ما عليه، ويتجاهل ويتعامى عن رؤية الصورة الكلية الصحيحة للأخذ بالسنن، فلو كان النجاح في شيء ما - على سبيل المثال - من عشرة أسباب أو خطوات.. فإنه يظن بمجرد أن يأتي خطوة واحدة أو سبب واحد، فإن باقي التسعة أسباب سوف يتم التغاضي عنها كونه مسلماً ! أو ربما لأنه لا يحسب لها حساب، وهذا "الفشل" في الرؤية، و"الفشل" في الحساب، و"الفشل" في التقدير، و"سوء الظن" في الحكمة الإلهية هو ما يؤدي لكثير من الفشل والعقاب.. ويؤدي إلى اعتقاد أن هذا الفشل والعقاب.. منزلة رفيعة لا ينالها إلا أهل الإيمان والابتلاء !!.
وإن "التفتيش" فيما هو في داخلنا - قبل إلقاء أسباب الفشل على غيرنا - سيكشف عن الكثير من الأخطاء والكوارث التي تحتاج إلى توبة أولاً، وعلاج ثانياً.. وكلما اكتشفنا خطأ وعالجناه، ذهبنا للذي يليه، ولا يكون ذلك إلا عندما نُدرك أننا مسؤولون عن "النتائج" وأنه لِزاماً علينا "النجاح"، وليس أن نقدم "ضحايا" على طريق الفشل ! وإن الأخطاء تأتي بالعقاب وليس بالابتلاء.
وإن منهج "ليس لنا علاقة بالنتائج" فهي من عند الله، والهرب من المسؤولية.. منهج لا يُقدم للأمة سوى مزيد من الضحايا والتضحيات، ويستنزف طاقاتها.
وإن منهج "علينا الأخذ بالأسباب، وإتباع السنن بصورة متكاملة دقيقة صارمة تحسب حساب كل صغيرة وكبيرة، ونحن المسؤولون عن النتائج".. منهج يضع الأمة على الطريق، ويأخذها برفق وحزم إلى النجاح والتمكين والريادة من جديد بإذن الله.
* * *
تعليقات
إرسال تعليق