مصطلح السنة
كان مدلول السنة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني متابعته، والاستقامة معه بلا طغيان. وبعده وفاته.. ومن خلال المراجعة التاريخية لهذه الفترة - خاصة إبان أحداث الفتنة الكبرى - يتبين أن استخدام هذا المصطلح كان من أبرز معانيه ومقاصده هو: "الحكم الراشد" وتقوى الله في الحكم، والعدل في قسمة المال بلا محاباة ولا أثرة.
التعريف في فترة تدوين الحديث:
كانت تعني ما صح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله.. أي السنة القولية والعملية في العبادات والمعاملات، وبالجملة: "صحيح السنة النبوية".
ولعل البعض يستغرب من أن معنى السُنة في الصدر الأول كان يعني "الحكم الراشد" لذا.. فلنتوقف قليلاً عند هذا المعنى..إن أركان الإسلام من: "صلاة وصيام وزكاة وحج" لم تختلف عليها الأمة طوال تاريخها، فالأمة كلها تتفق على الصلوات الخمس، وصوم الشهر، ومقدار الزكاة، وحج البيت، وهي تُتابع - في الأغلب الأعم - سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأما الاختلافات الفقهية البسيطة في بعض الأمور كـ كيفية السجود أو وضع اليدين أو البسملة... إلخ، فليست ذات كبير شأن، ولكنها اختلفت كل الاختلاف - بل وتقاتلت حتى صار البأس بينها شديد - عندما وقفت بين طريقين: (1) طريق الحكم الراشد في خلافة النبي صلى الله عليه وسلم، والرحمة والعدل في الحكم، أو (2) في الارتداد إلى العصبية العامية، والتغلب بالسيف، فكان ذكر سنته - صلى الله عليه وسلم - تعني "الخلافة والرحمة" وليس المُلك والتغلب والقهر.
ولمَ لا ؟
فإنه بغير هذا المعنى نصبح أمام تصورين: إما أن يكون هذا الدين هو دين للآخرة فحسب، أو أن يكون هو دين للدنيا والآخرة. فإذا كان هو دين للآخرة - وهذا هو المفهوم العلماني - فهذا يعني اختزال مفهوم السنة إلى صور الشعائر فقط، وأما مفهوم أنه دين للدنيا والآخرة - وهذا هو الفهم الصحيح - فهذا يعني أنه دين يقصد بشكل واضح صريح قاطع "الحكم" والسُنة.. خلافته صلى الله عليه وسلم فيها بالحق والعدل والرحمة، ومن خلال مدلول الأحاديث التي تحدثت عن الخلافة.. يتبين أنها مصطلح ذات دلالة شرعية - لا شكل أو نماط سياسي محدد - وأنه إما أن تكون خلافة قائمة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن تعود للجاهلية القائمة على العصبية والتغلب والتفرق والتحزب والقهر والاستعباد والاستبداد على سُنة قيصر وكسرى "سُنة الروم وفارس".
ولهذا فإن تحرير هذا المصطلح قضية ذات شأن ودلالة كبيرة.
* * *
حَدث في الملك العضوض، وفي القرن الثالث الهجري عملية اغتيال لمصطلح السنة، في خضم الصراعات العقدية والفقهية والمذهبية، بل والخصومات السياسية كذلك، فأدخلوا في السنة ما ليس منها، وأخرجوا من السنة ما هو من أصولها وصلبها، وشرعنوا سُنة الروم وفارس في الحكم.. وجعلها من سُنن الإسلام !.
وصار صاحب كل بدعة - أو منهجه في النظر ابتداء منهج مبتدع - يسمي كتبه وتصوراته بـ "كتاب السنة" وشروح السنة، ومع ذلك تكون خالية من مفهوم "الحكم الراشد" أو ما "صح قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم" فصارت كتب السنة تحوي من البدع والخرافات التي تَصور الناس أن اعتقادها هو متابعة الرسول، والفهم الصحيح للكتاب ! فصار يُقدم الجهل باسم "السنة" ومن ثم ضرب المخالف بسيف البدعة.. وإرهابه، واغتياله معنوياً.. بل واستباحة قتله تحت الفتوى المُشينة بقتل "أهل البدعة".
فالبدعة الحقة: هو الإحداث والإتيان بغير ما كان عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من إحقاق الحق، والقيام بالعدل، والقصاص من الظالم - أياً كان ولو الخليفة نفسه - والمساواة بين الناس، والتفضيل بينهم على أساس التقوى والكفاية وحسن البلاء، لا على أساس النسب والعشيرة والقبيلة، وعدم المحاباة في دين الله.
والبدعة الحقة: كذلك هي الإحداث والإتيان بغير ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الإيمان والعبادة، أو الغلو في كتاب الله، أو أتخاذه مهجورا.. أو تعقيد أمور الدين وإدخال فيه ما ليس منه من فلسفات وأراء، أو إخراج منه ما هو من صلب قضيته، وغايته. أو تفريق الدين، وجعل القرآن عضين مُقسم حسب الأهواء والعصبيات.. أو تفرقة الأمة، وقطع الطريق على حب دينها، وفهمه من خلال ركام فكري لا أصل له.. ثم التقليد على أساس بدعي، باسم العلم والسلف.
* * *
ولهذا نجد أن من البدع التي وصلت إلينا وهي مُغلفة بستار "السنة" والسنة منها براء:
· إهمال العقل والتفكر والفهم: مما أدى إلى إحداث كثير من التناقضات في فهم التصور الإسلامي، والقيام بعملية إرهاب فكري لكل محاولة صادقة ومخلصة وجادة لفهم قضايا الإسلام، ومحاولة تطبيق سُنة "الحكم الراشد" فكانت جريمين: جريمة تجريم العقل، وجريمة الاغتيال المعنوي لمن يتجرأ على ذلك، فصار إنتاج العقل المسلم في الأمور الفكرية والسياسية يُرثى لها. والسنة من ذلك براء، فكتاب الله ناطق بضرب الأمثال للتفكر، والتعقل، والإفهام.
· إدخال الفلسفات في قضايا الإيمان: إن الإسلام جاء بعقيدة يسيرة سهلة بسيطة، هي بالأصل مركوزة في فطرة الإنسان، فالفطرة السوية تهتدي إلى الله، والإسلام يأتي ليضعها على الصراط المستقيم، وهي عقيدة يستطيع أن يفهمها الجاهل والعالِم.. وأما إدخال فلسفات معقدة في قضية الإيمان، وجعلها السنة، وغير ذلك فهو: المبتدع أو الفاسق أو الكافر، فليس من السنة في شيء، بل هو عين الابتداع، بل المنهج في ذاته مبتدع، وما أنزل الله به من سلطان في الكتاب أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه القضية من أشد الأمور التي ضربت بسيف الفرقة في الأمة المسلمة، وصارت بعدها يلعن الناس بعضهم بعضا، ويُكفر بعضهم بعضا.
· إدخال الأحكام الفقهية في قضية السنة: جاء الإسلام يخاطب الإنسان تارة، ويخاطب المسلم تارة، ويخاطب الأمة تارة، ويخاطب الحاكم والقاضي تارة، وعند عدم فهم المراد بالخاطب.. قد يحدث بعض الاختلافات الفقهية - وهي مسألة بسيطة - لولا أن البعض يجعل من طريقة فهم بعض الأحكام الفقهية أنها ركن من أركان السنة الخارج عنه فهو الضال المبتدع، وإن قضية اعتبار شيء ما هو السنة - ولا يكون منها - من شأنه أن يُعجل بفرقة الأمة، ويُفرقها شيعاً وأحزاباً، ويسارع إلى البغي والظلم وشهادة الزور على دين الله.
· ترتيب أفضلية الصحابة: قضية ترتيب أفضلية الصحابة ليست من السنة في شيء، وقد جاءت بعض الآثار بمناقب في كبار الصحابة، وتكاد تكون متساوية أو تكون في بعض أكثر من آخرين، ولكن قضية ترتيبهم بالشكل المعروف، لم تكن على عهدهم، ولم تكن ذات كبير شأن عندهم أو عند من يحبهم، بل كان في عهدهم من يُفضل فلان لنسبه وقربه من النبي، أو يحبه لعبادته أو لعشيرته أو لعدله... إلخ من أسباب الحب والموالاة الفطرية، بل هم أنفسهم اختلفوا سياسياً - وهذا الاختلاف لا يقدح في أحد منهم - ومن يقرأ عنهم بتمحيص وتدقيق - دون أن يقلد في جهالة - يجد أنها مسألة بسيطة جداً، وأن إدخالها في مفهوم السنة تسطيح لمفهوم السنة، وتهوين من أمر البدعة.. ولقد أدى هذا الأمر إلى الغلو الشديد فيهم، والافتراق في الدين.. فيما بعد. كما خلطوا بين المهاجرين والأنصار والبدريين وأهل بيعة الرضوان وكبار الصحابة، بمن رأى النبي ولو ساعة من نهار - أو من كان من الطلقاء - وجعلوا أن من رأى النبي ولو ساعة فهو أفضل ممن جاء من بعدهم ولو جاء بأفعال الخير كلها. وجعل هذا التصور السقيم هو السنة، وهذا لا شك باطل لا يقوم عليه دليل، ولا يستقيم في عقل أو يصح في نقل. وجعل كذلك يعطي "العصمة المقدسة" في الصحابة.. ومن ثم الجهل بمحاولة فهم تطور الأحداث السياسية والتعمية عن فهم الحقائق التاريخية، وكيفية معالجتها، فصار تقديس الخطأ من السنة !! وتم الربط المتعسف بين حب الصحابة ومكانتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، والترضي عنهم، وبين الظروف التاريخية التي حوت ولا شك أخطاء كطبيعة أي مجتمع بشري، خاصة في أحداث الفتنة الكبرى وما تلها.
· شرعية التغلب بالسيف وعدم الخروج على الظالمين: وهي قضية من أهم القضايا، ومستقرة في ذهن كافة المسلمين.. أن هذه هي السنة، المخالف لها هو المبتدع الضال المنحرف ! ومن خلال مفهوم السنة يتبين بطلان هذا القول جملة وتفصيلاً، وأن السنة هي الحكم الراشد، وأنها تحارب الارتداد للعصبية العامية والتغلب والقهر والظلم، وأن سُنة الإسلام مناقضة تماماً لسُنة الروم وفارس، وأن السنة جاءت ليقوم الناس بالقسط.. هكذا الناس كل الناس، والقسط المطلق العام في كل شيء، وشرعية التغلب هي من أشد قضايا الفكر السياسي تناقضاً وخلالاً، فهي تقر شرعية التغلب من جانب، فإذا قفز أحد على هذه الشرعية وارتكب "حرام" الخروج، صار مرتكب الحرام له الشرعية.. فنشأت عقيدة "الجبر السياسية" والاستسلام للظلم، وشرعنة الاستبداد والمُلك وحماية الجاهلية بآيات القرآن والسنة، والسنة من هذا كله براء.. إن قضية الظلم والطغيان، والبيعة للظالمين تحت بريق السيوف قضية منتهية في أنها باطلة، وبقي مسألة كيفية التغيير.. وقد استغل بعض السفهاء أحاديث منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم لشرعنة هذا الظلم بدلاً عن تغييره، وعندما فشلوا في معرفة "كيفية التغيير" تم التكيف مع هذا الباطل أولاً، ثم شرعنته ثانياً، وبمجموع الروايات في هذا الأمر نجد بدائل متعددة في كيفية التغيير من: الإنكار بالقلب، إلى اللسان، إلى اليد.. إلى المعارضة السلبية، والمعارضة الإيجابية، إلى الثورة والخروج المسلح، إلى الاعتزال - "العصيان المدني" بالمفهوم المعاصر - ونجدها تخاطب الفرد تارة، والجماعة تارة أخرى، ونراها قد تكون مرهونة بالظرف الواقعي، وحال الأمة ومدى قربها من دينها وشرع ربها، وحال الرواد والمصلحين، وحال الظالمين ومدى ظلمهم، وتقدير الإصلاح، والاجتهاد في تحقيق أنسب الطرق المؤدية للأخذ على يد الظالمين، وإتباع السنة النبوية في الحكم الراشد. وهي كما نرى مسألة اجتهادية سياسية واسعة جداً، وذات تفصيلات كثيرة، وذات أبعاد واقعية لكل عصر تعيشه الأمة، فكيف تكون السنة عدم الخروج على الظالمين ؟!! فلا شك أن هذه هي البدعة في أوضح صورها.
* * *
هذه بعض الأمثلة من البدع التي دخلت في تصورنا الإسلامي باسم "السنة"، ونحن بحاجة إلى نفض هذا الغبار، والشجاعة في مواجهته.. دون تحقير لأحد، أو إيغال الصدور تجاه جماعة، ومحاولة إزالة عوامل الفرقة والافتراق.. وتنحية الأسباب التي أدت إلى الفرقة الأولى، ولا يكون ذلك إلا بالكف عن البغي والظلم والعدوان على الآخرين باسم "سيف السنة" الذي قوامه البدعة.. ورحمة الله قريب من المحسنين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين لا يشهدون الزور، وإذا مروا باللغو.. مروا كراما.
* * *
تعليقات
إرسال تعليق