الدجل باسم الدين
استمعت إلى داعية سلفي كبير.. اتحفّظ على ذكر اسمه حتى لا يتكون للقارئ أحكام مسبقة عنه، وحتى يتأمل الفكرة مجردة.
طرح الداعية في جلسة واحدة مجموعة من "الطوام الفكرية" التي دخلت "العقل المسلم" بكل سلاسة وانبهار وإعجاب، متصوراً أن ما قاله الشيخ هو صحيح السنة، ومنهج السلف الصالحين !.
الفكرة الأولى: عاب الشيخ على دعاة اليوم ممن أصبح يهتم بالسياسة، ويترك الدعوة إلى الله.
ولا شك أن المفهوم الذي يصل إلى المستمع والمشاهد هو أن السياسة شيء، والدعوة إلى الله شيء آخر، وهذه هي عين "العلمانية" ولذلك أحسب لم نخطئ عندما كنا نسميها "السلفية العلمانية" تلك السلفية التي تتصور أن دين الله هو مجرد مجموعة من الشعائر والتسبيحات فحسب ! وهذا تصور "كهنوتي" عن الإسلام !.
إن الأحاديث النبوية الشريفة تُبين لنا حقيقة السنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلُ مَنْ يُبَدِّلُ سُنَّتِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ " وقال: " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ" وقال: " لتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ، عُرْوَةً عُرْوَةً.. وَأَوَّلُهُنّ نَقْضًا الْحُكْمُ" وقال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " وبلغتنا المعاصرة فإن "السنة، والحكم، والأمر" تعني: السياسة ونظم الحكم وطريقته، فإن سنة النبي التي تغيرت هي تحويل أمر الخلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شؤون الأمة إلى سُنة كسرى وهرقل، وإلى "المُلك العضوض" فالسُنة النبوية الواجب إتباعها وإيحاؤها هي سنته في الحكم، كما هي سنته في الإيمان والعبادة، ولكن أصبحت ملايين المسلمين تعتقد التصور الكهنوتي عن الإسلام بعدما عملت العلمانية الغربية عن فصل الدين عن الحياة، وعملت السلفية العلمانية عن فصل السياسة عن الدين ! ثم دخل هذا الدجل إلى المسلمين باسم السنة والعقيدة الصحيحة.
ولا أعرف بالضبط من هم الدعاة الذين يقصدهم الشيخ، ولكن بالعموم يجب أن نفرّق بين بيان الفقه السياسي الإسلامي الراشد، والسنة النبوية في أمور الحكم، وتقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين "الأراء السياسية" التي تناقش أحداث معاصرة من باب الثقافة أو إبداء الرأي، فهذه غير تلك.
* * *
الفكرة الثانية: يقول الشيخ: "إن من أصول عقيدتنا طاعة من ولاه الله علينا".
وهذا هو المعنى المرادف لـ "أبناء الآلهة" الذي كان عند الرومان، والحق الإلهي المقدس، وظل الله في الأرض.. ثم انتقلت هذه اللوثة الملعونة، وهذه السُنة الفاجرة إلى الفكر الإسلامي، حتى أصبح من علماء المسلمين، من يتصور أن الحاكم يحكم نيابة عن الله، أو كما قال الشيخ: "من ولاه الله علينا" أ الله ولى علينا الفاجرين الخائنين السارقين ؟! حاشا لله، وتعالى عز وجل عن ذلك.. فأمر الولاية والحكم، مثل غيره من حياة البشر وأفعالهم، لهم فيها "الحرية والاختيار" وتحمل التبعة، والحساب والجزاء على ذلك، وتلك هي الأمانة التي حملها الإنسان.
وإن هذا الفكر المنحرف هو الذي كوّن عقيدة "الجبر السياسية" أي: اعتقاد أن الإنسان مجبور مقهور على أفعاله ليس له فيها اختيار ولا تغيير ولا إرادة، وفي الأمور السياسة تكون كما صاغها الشيخ: "طاعة من ولاه الله علينا" إن الإنسان الوحيد الذي ولاه الله علينا، وتجب طاعته، وطاعته من طاعة الله، وأعطاه الله سلطانه.. هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فقط لا غير، هذا وحده الذي ولاه الله علينا، وأكرمه بالرسالة، وهذا وحده هو الذي لا نُقدم بين يديه شيء من أمر الدين والشرع.
أما غيره فالله لم يول أحداً عليناً.. إنما هي أفعالنا، وسنن الله الماضية في كونه من العدل والجزاء، وليس لأحد طاعة علينا كائناً من كان إلا بشرط "إقامة كتاب الله" فهذا وحده هو "سلطان الله في أرضه".
وكثيراً ما يحدث الخلط بين قدر الله الكوني، وقدر الله الشرعي.. فقدره الكوني "كن فيكون": فلا شيء يحدث في هذا الوجود إلا بإذنه ومشيئته وإرادته المطلقة من كل شيء، وهو القائم على كل شيء، وبه يقوم كل شيء سبحانه، ولا يحدث في ملكوته أمر إلا بإذنه، وهذا القدر لا دخل لنا به، وله نُسلّم، وبه نؤمن، ولرحمة الله نرجو ونسأل.
أما قدره الشرعي: وما عهده إلينا من إرادة وأمانة واختيار، وما أكرمه بنا من سلطان للكتاب، وما علمنا إياه من سنن إلهية.. فهذا هو محور ومناط "التكليف" والابتلاء، بل إن الله جعل أمر التغيير في حياتنا، منوط بتغيير ما بأنفسنا، وعليه فإن أمور الحكم وحياتنا الخاصة والعامة، وما نحن فيه من هزيمة أو نصر أو غيره، فإننا نتعاطى معه من منطلق "الأمانة والحرية والإرادة" التي منحنا الله إياها، ومن التطاول على الله عز وجل أن ننسب إليه أنه ولى علينا أحداً يدير شؤون الحكم في دنيانا هذه، ويُكرس لـ "المفهوم الكنسي الإمبراطوري الروماني القديم" ويخلق أفضل بيئة لـ "الاستبداد والظلم والقهر" باسم الدين والسنة، والله ورسوله من ذلك براء.
والشيخ لا يعتبر هذا الدجل مجرد رأي فكري، أو رؤية مذهبية، أو رأي سياسي.. كلا ! إنه يجعله "عقيدة" فيصبح الخارج عنها "ضال، مبتدع" ليس من أهل السنة، وليس على منهج السلف !.
* * *
الفكرة الثالثة: تحدث عن "الاستغفار" وقال أنه بمجرد الذكر تتغير حياة الإنسان، ويحدث له من الخير والمعروف... إلخ، وتساءل ماذا يضرك إذا جلست في دقيقة تقول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" مائة مرة ؟!!
والمؤاخذة على هذا الأمر، هو "الشعور" الذي يتسلل للمستمع أنه بمجرد أن يجلس في هذه الدقيقة يقول هذا التسبيح العظيم، فإنه قد أدى الأمانة، وقام بما عليه، والأمر ليس كذلك، وتصوره على هذا النحو قد يؤدي - كما هو حاصل - إلى نوع من "الرهبنة الدينية" و"الدروشة الواقعية" واختزال مفهوم الذكر والاستغفار لأقصى درجة، وأقل معنى.
إن الذكر في التصور الإسلامي ليس هو معناه الجلوس دقيقة لتقول عدد معين من التسبيحات، إنما معناه "الاتصال الدائم" بالله سبحانه: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ } فهذا الذكر الدائم، والاتصال الدائم، هو انشغال القلب وامتلاءه بحب الله تعالى، وهو كذلك الفكر والتفكر والتأمل في ملكوت الله في السموات والأرض، وما خلق الله من شيء، هذا هو معنى الذكر.
وأما الاستغفار: فهو على المستوى الفردي التوبة الدائمة، والمراجعة المستمرة، وهو تطهير النية، وإصلاح السريرة، وكف الإنسان ظلمه وبغيه، أما على المستوى الجماعي وحياة الأمم: فهو إقامة الحق والعدل، وإقامة دينه وشرعه، وقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيكون في الذكر والاستغفار صلاح للإنسان من داخله، وصلاح للحياة من خارجه، ولذلك قال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً } فهذا هو المعنى الحقيقي.
* * *
ثم اختتم الشيخ حديثه بما نهى عنه من الحديث في السياسة، فراح يطبل ويزمر ويهلل لـ "ولي أمره" ومدى شجاعته وحكمته، ومحاربته لأهل البدع ! والناس تسمع في انبهار، مشدوهة أمام فصاحة الشيخ، وعلمه ! فيدخل إليها هذا "الدجل" باسم الدين، وتمضي في هذا الخدر لا تستفيق منه إلا عند لحظة الاستبدال أو وقوع العذاب ! وأنا لا أتصور أن الشيخ كان يغش مستمعيه أو يقول ما لا يعتقد.. كلا، إنه كان شديد الإيمان بما يقول؛ فتكتمل المأساة، ويزداد التيه..
فاللهم غفرانك ورحمتك، اللهم اشمل هذه الأمة بلطفك وحلمك، وحررها من هذه الآصار والأغلال.
* * *
تعليقات
إرسال تعليق